القيم الكونية لحقوق الإنسان في ميزان الشرع

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد واله وصحبه أجمعين.
وبعد؛ سادتي وإخواني!
إن من المعلوم حقا أن الإنسان مكون من روح ومادة، وعقل وقلب

، وفكر ووجدان، وعلم وثقافة، ورأي وبيان، ومدنية وحضارة، وذوق ومشرب، وأنه ليس حيوانا ناطقا كما يعرفه المناطقة، وليس تطورا حيوانيا ميكانيكيا كما يجسده داروين، وليس مادة وجسدا وشهوة كما تصوره الحضارة الغربية الهابطة، وليس روحا ميتا فيزيقيا كما يتصوره الكهنوت والإشراقيون، وليس طامعا وكاسيا فحسب كما تقدمه المدنيات السائدة.
إنه نفحة من روح علوية، لها مطامحها العلوية، ونظرات إلى السماء، وبحث في الفضاء، وتجسس للعالم المكنون، وحب للارتباط بفاطره وخالقه وبارئه، وإنه مادة وجسد، له متطلباته وضروراته المادية الحيوانية، وهو عقل وقلب، له أفكاره وآراؤه ومذاهبه ونظرياته وأذواقه وأحلامه وأشواقه، وعواطفه ومشاعره، وهو صاحب علم وثقافة، له فلسفته وفكره، وتاريخه، وخلفياته، ومشاريعه، وهو مدني الطبع حضري التطلعات، له أسرته ووسطه وبيئته ومجتمعه وحضارته، وتطوراته وتطلعاته.
نعم أيها السادة إن الإنسان ذلك السر الإلهي الدقيق العميق، والكائن الحي الذي يمثل العالم الأصغر للعالم الأكبر، ذلك الذي كرمه ربه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾، سورة بني إسرائيل 70.
والذي خلقه في أحسن تقويم، والذي حمل الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، والذي علمه ربه البيان، وأعطاه القلم، وأمره بالقراءة، والذي اختاره خليفة له، وعلمه أسماء الأشياء كلها، والذي خلق له ما في الأرض جميعا، بل سخر له الشمس والقمر دائبين، وسخر له الليل والنهار، وأتاه من كل ما سأل بلسان المقال، والذي اصطفى منه الأنبياء والرسل والعلماء والحكماء، والذي أنزل عليه الكتب، وعلمه الشرائع، وجعل حياته حياة الناس جميعا، وموته موت الناس جميعا، والذي خاطب ربه أولي الألباب بأن في القصاص له حياة، وأي حياة، وفي الظلم والإجحاف والجحد والنكران موتا وأي موات.
هذا الإنسان مع هذه القيم الكونية العظيمة التي لا يفرق فيها بين فرد وفرد، وأسرة وأسرة، وقبيلة وقبيلة، وبين أبيض وأسود وعربي وعجمي، مساواة كاملة في حق الإنسانية، وخصائصها، ومميزاتها، وما توجد من فروق فليس لكبرياء بعض وحقارة بعض آخر، وليست للطبقة، وتفاوت الدرجات كما اعتقدت البراهمة، واليهود المحرفون، ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾، حتى ما يوجد من التفاوت في الفقر والغنى ووسائل المعيشة، إنما هو للمدينة ومتطلباتها.
﴿نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا﴾، سورة بني إسرائيل 70.
هذا الإنسان العاقل ذو الأحاسيس والمشاعر، والرؤى والمذاهب، حر في إرادته، طليق في مشيئته، لم يقيد بقيود تسلب منه الإنسانية، ولم يكبل ولم يصفد.
﴿فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾، وسوف يلقى جزاء كفره عند ربه، ولكنه مخير في هذه الحياة الدنيا.
﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي﴾.
﴿أفنلزمكموها وأنتم لها كارهون﴾.
فالحرية مضمونة بشرط أن لا تكون مضرة هدامة، تسلب حقوق الآخرين، وتتدخل في شؤونهم، وتلحق بهم الأضرار.
«فلا ضرر ولا ضرار»
لا بد أن تكون حرية بناءة، خيرة متسامحة، حرية العقل والفكر والضمير، والشعور والوجدان، والإظهار والبيان بحيث لا تتعدى طورها ولا تطغى حدودها ولا تجور على غيرها.
الناس أحرار في غير ضرر ولا ضرار، فمن يضر نفسه يحجر عليه، ومن يضر غيره يحبس عن تصرفه، ويجازي بفعلته لضمان حريات الجميع والاستقرار والحفاظ على الأنفس والأموال والأعراض، والعقل والدين، والشرف والكرامة، واللغة والثقافة والحضارة، وبشرط مراعاة حقوق الجميع وأداء الحقوق والأمانات إلى أهلها، وعدم الظلم، والجنف والإثم والعدوان، وبشرط الحفاظ على الخصائص البشرية، والكرامة الإنسانية، والفضائل الخلقية واجتناب كل ما يخدش الشرف والكرامة، والأمن والسلام والوئام.
إن الشريعة الإسلامية تمثل النظام الرباني العالمي السمح الكريم الودود الذي جعل الخلق عياله، وقرر أن أنفعهم لعياله أحبهم إليه- سبحانه- وأنه لا يستحق الرحمة من لا يرحم، وأن الراحمين يرحمهم الرحمن، وأمرهم بأن يرحموا من في الأرض يرحمهم من في السماء.
هذه الحقوق الإنسانية التي تراعي الصغير والكبير والظاهر والباطن، والمادة والروح والضرورات والحاجيات والتحسينات والحياة الأسرية والاجتماعية والقومية والعالمية والتي تنظر إلى الناس جميعا أنهم عائلة واحدة، وأسرة واحدة، أبوهم واحد وأمهم واحدة وربهم واحد، والتي لم تفرض على الناس إلا ما يصلحهم وينفعهم، ويضبط أمورهم، ويكبح جماحهم، ويطهرهم ويزكيهم ويرتقي بهم، ويخلصهم من كل ما فيه خبث ورجس، وفساد وهلاك وهي حقوق مردفة بواجبات، وهي مطلقة عامة، ولكنها تحد بحدود وقيود تحفظ معاني الإنسانية، وتستكمل المصالح المطلوبة، وتقيم مجتمعا عادلا رحيما، متعاونا متعايشا بالأخوة الإنسانية، والأخلاق الفاضلة وإيتاء كل ذي حق حقه، بعيدا عن كل إثارة، وإهاجة وبلبلة، وطغيان، فليس هناك في رحاب هذا النظام ما يسلب من الفرد عقله ولبه، ويخرب روحه وقلبه، ويوهن جسمه وعزمه، ويضيع دينه وكرامته، ويخدش شرفه ومروءته، ويبعده من ربه الحنان ويسلمه إلى أيدي الشيطان الوسواس الخناس، وليس هناك في محيط هذه الحقوق المرعية المحفوظة ما يفك الأسر، ويفتت المجتمع، وينشر الفساد، ويبذر البغي والعدوان وهتك الأعراض، وإفساد الأخلاق وليس هنالك ما يبعث الحكام على التعسف والجور والطغيان والرعية على الثورة، والهدم والعدوان، إنما هنالك سلطان عادل، وشباب نشأوا في عبادة الله، أطهار أخيار، فلا فتن ولا إغراءات، ولا مجون ولا تقليعات، ولا إثارة ولا هياج.
﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي﴾.
أما حقوق الإنسان التي تنادي بها وثائق الأمم المتحدة فهي حقوق الإنسان المادي والحيواني الشهواني الدارويني الفرو يدي التي لا علاقة لها بالقيم والمثل والأخلاق الفاضلة والشرائع السماوية، وحياة الأنبياء والرسل والصديقين والصالحين، حقوق مبتورة منقوصة، مشوهة، ممسوخة، تمسخ الناس قردة وخنازير، وتجرد الناس من كل سمو خلقي، وطهر روحي، وزكاء نفسي، ومن كل سمت وحياء وشرف وعفاف، هذه الحقوق العالمية المزعومة التي يقوم عليها أبناء صهيون، وماسون، تحول الناس حميرا وحيوانات مسعورة، يركب بعضها بعضا، في هياج وسعار وجنون، والتي تناصب الأنبياء والرسل العداء والبغضاء، وتحاول أن تقضي على كل ما أثر عنهم، وبقي منهم، ويمت إليهم بأي صلة، إنها حضارة شيطانية، ومؤامرة دجالية تخطط لاستئصال الحضارات الربانية العادلة، واجتثاث جذور الحقوق الإنسانية العالمية، لتسلط على رقاب الناس كل قهر واضطهاد، وظلم طغيان، وتبيد السلالات البشرية، والشعوب الإنسانية، وتدمر بلدانا إثر بلدان لتمهد على أنقاضها ربوبية الدجال المسيح الأكبر.
إن الدين العالمي، والرسالة العالمية، والشرعية العالمية تنتظر الدعوة العالمية، والتبشير العالمي، والتطبيق العالمي، فحيهلا أيها السادة الأفاضل إلى زمام المبادرة العالمية للنظام العالمي الجديد، فإما إقدام وحركة وإقبال فبناء وتعمير وازدهار، وإما إحجام، وخوف وانزواء فدمار وخراب وبلاء، وعلى الله المشتكى، وهو المستعان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *