الـقـدوة الحـسنـة وأثـرھـا فـي بناء الفرد والمجتمع

د/عبد الهادي السبيوي

 

الحمد لله الذي خصنا بخير رسله، وأنزل علينا أكرم كتبه، وشرع لنا أكمل شرائعه، أحمده سبحانه وأشكره، لا أحصي ثناء عليه، أكمل لنا الدين، وأتمّ علينا النعمة، فقال جل من قائل كريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وآمنوا برسوله، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.

 

أحبتي في الله

ارتأينا في هذه الخطبة المباركة ان نقف عند موضوع هو من الاهمية بمكان  موضوع أصبح يفرض أكثر من أي وقت مضى بسبب الضعف الذي أصاب حياة المسلمين من خلال غلبة الأهواء وإيثار المصالح الخاصة وقلة من يقتدى بهم  , لذلك فإن حاجة المسلمين في مختلف بلدانهم تتطلب وجود القيادات والقدوات التي تكون نموذجاً حياً بحيث يرى الناس فيهم كل معاني الخير والصلاح قولاً وفعلاً , فينجذبون إليهم ويتأثرون بهم , لأن التأثر بالأفعال أبلغ بكثير من التأثير بالكلام وحده , فقد جاء على لسان شعيب عليه السلام قوله تعالى : [وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ] {هود:88}  .

 

فإذا أردنا أن يحفظ الله لنا ديننا الذي ارتضاه لنا ويستتب الأمن والسلام في مجتمعنا ونكسر شوكة أعدائنا فَلْنُقِم هذا الدين في حياتنا وسلوكنا علماً وعملاً

والمسلم القدوة لهو أشد خطراً على أعداء الإسلام من كل عدة وأكثر تأثيراً فيهم من كل سلاح , فهو أغلى ما يملكه المجتمع وبه يسود وينتصر , ونسأل الله I أن يجعلنا من المتأسين برسول الله صلى الله عليه وسلم  المهتدين بهدى الإسلام , وأن يمكن لنا في الأرض وأن يجعلنا أئمة ويجعلنا من الوارثين .

 

والقدوة في اللغة :تقرأ بالضم والكسر فنقول القُدوة والقِدوة وهي تعني من يقتدي به الإنسان ويستن بسنته , فيقال : فلان قدوة يُقتدى به , والقدوة : المثال الذي يتشبه به غيره , فيعمل مثل ما يعمل , ويحذو حذوه في كل صغيرة وكبيرة .

والقدوة مثل الأسوة , ويقال : تأسيت به إذا اقتديت به , واتبعته في جميع أفعالي وأقوالي , قال تعالى : [أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ] {الأنعام:90}

ونخلص مما تقدم أن القدوة والأسوة شيء واحد يعني أن كل ما يتخذه الإنسان مثالاً حياً في سائر أفعاله وأقواله يعتبر قدوة وأسوة في حياته .

أما القدوة اصطلاحاً :فهي مثال من الكمال النسبي المطلوب , يثير في الوجدان الإعجاب فتتأثر به تأثراً عميقاً , فتنجذب إليه بصورة تولد في الإنسان القناعة التامة به , والإخلاص الكامل له .وهذا ينطبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم  حيث كانت حياته مثار إعجاب الجميع مما جعلهم يتأثرون به

 

والقدوة  احبتي في الله أنواع:

فإذا نظر الإنسان في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم  وفي أوضاع الناس وأحوالهم يتضح له أن القدوة تنقسم إلى نوعين :

القدوة الحسنة : وهي التي تتخذ الاقتداء برسول الله منهجاً وسلوكاً وتتأسى به صلى الله عليه وسلم  في تطبيقها العلمي في واقع الحياة , وهذا النوع إنما يسلكه ويوفق إليه من كان يرجو الله واليوم والآخر , ودخل الإيمان قلبه , فعمل بالتنزيل وخشي من الجليل واستعد ليوم الرحيل رجاء الثواب الجزيل وخوف العقاب الشديد.

القدوة السيئة : وهي على عكس ذلك تماماً , فهي لا تتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم  ولا تتشرف بحمل الإسلام , بل إنها تعتز بانتسابها لغيره , كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسي بهم , قال تعالى : [إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ] {الزُّخرف:23}  , فقولهم هذا عين التقليد والمحاكاة يكون ضاراً ومفسداً وطريقاً لوصول المقلدين إلى دركات النقص التي انحدرت إليها أسوتهم السيئة . وتنقسم القدوة الصالحة بدورها  إلى قسمين :

1- القدوة المطلقة :

وهي تعني الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم  في سائر أعماله وتصرفاته وذلك لأنه بعث ليقتدى به وليطاع بإذن الله فهو لا ينطق عن الهوى وإنما يوحى إليه , قال تعالى : [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم:3-4}،   والاقتداء به والسير على نهجه هو النجاة الحقيقية للإنسان في الدنيا والآخرة , فهو القدوة الحسنة في أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته لكي يستلهم الناس سلوكهم من هذه القدوة , قال تعالى : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] {الأحزاب:21}  .

فرسول الله صلى الله عليه وسلم  كان ولا يزال الأسوة الحسنة للناس جميعاً في جميع جوانب الحياة فإذا تفكر الإنسان في أحوال القادة والمصلحين والسياسيين فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم  يضرب بقيادته وصلاحه أروع الأمثلة في هجرته إلى المدينة وإقامته للدولة والمسجد وتأليفه بين الأوس والخزرج وفي سائر غزواته .

وإذا بحث الناس في ميادين التربية وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم  يتربع على عروش المربين فإذا هو المربي الكريم والقائد والمعلم الذي ربى أصحابه الكرام على الفضيلة والقيم العليا النبيلة .

ولقد اعتلى صلى الله عليه وسلم  أعلى مراتب الأخلاق والعلم ؛ لأنه تربية رب العالمين ليكون السراج المنير والمثل الأعلى والقدوة العظمى للإنسانية جمعاء , أدبه ربه فأحسن تأديبه , فكان قرآناً نابضاً حياً متحركاً , وحينما سُئلت عائشة عن أخلاقه أجابت : كان خلقه القرآن.

وكان صلى الله عليه وسلم  في كل شيء وكأنه متخصص فيه , فإذا نظرت إلى عبادته وجدته رجل عبادة , وإذا جاهد وحمل السلاح قلت : إنه رجل حرب وجهاد تكفي قيادته للجنود الغازية في سبيل الله , أنها تفوق عشرات القواد , وفي حياته الزوجية مسئوليات أسرة كبيرة تشمل تسع نسوة يعدل بينهن ويعاملهن أكرم معاملة .

وكان صلى الله عليه وسلم  واعظاً ومرشداً أميناً يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر , وكان متحلياً بمحاسن الأخلاق وهي التي جعلت منه أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل , بل كان صلى الله عليه وسلم  مربياً وهادياً بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام , لهذا أمر الله المؤمنين بإتباع الرسول وطاعته , وجعل هذا من مؤشرات الحب في الله , قال تعالى : [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ] {آل عمران:31}

2- القدوة المقيدة :

نعني بالقدوة المقيدة , أي بما شرعه الله سبحانه وتعالى  لأنها غير معصومة , كما هي في الصالحين والأتقياء من عباد الله وتتمثل في الاقتداء بالصحابة والعلماء والاقتداء بالوالدين وبالمعلم في المدرسة والجامعة والسبب في ذلك أنهم ليسوا معصومين من الخطأ فهم بشر يصيبون ويخطئون والمسلم يقتدي بهم عندما يصيبوا الحق , ويجتنب الاقتداء عند مجانبتهم للصواب حيث رغب الحق تبارك وتعالى أن يكون الإنسان قدوة في الخير وحذره أن يكون قدوة في الشر , قال صلى الله عليه وسلم  : (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غيـر أن ينقص من أجورهم شيء , ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).ونأخذ من الحديث أن الوسطية التي هي إحدى مرتكزات العملية التربوية في الإسلام , إن الدين لا يلغي حسنات الآخرين لخطأ وقعوا فيه , ولا يُقرر أخطاء القدوة المخطئ وإن أصاب في بعض الجوانب , وإنما يربي الشخصية الإسلامية على قبول الحق من أي وعاء صدر ورفض الخطأ من أي مصدر كان . حيث جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه وسلم  : (الكلمةُ الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها).

 

أحبتي في الله ،  اعلموا رحمكم الله أن القدوة الصالحة لها أهمية قصوى في بناء المجتمع والفرد على السواء ولأجل ذلك  أعطاها الإسلام اهتماماً كبيراً حيث لم يقف الأمر عند إنزال الكتاب على الرسل الكرام والحديث عن قصصهم وعرض سيرتهم ، بل أمر باتباعهم والاقتداء بهم ، فقال تعالى : [أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ] {الأنعام:90}  .

وأرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم  قدوة للناس يترجم الشريعة إلى واقع الحياة ، فيرى الناس في سلوكه وتصرفاته أوامر القرآن ونواهيه ، وهو بشر مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتمثل هذه الأخلاق ويعمل بهذه التوصيات ، سهّل عليهم الاقتداء والمتابعة له حتى أصبح يعتقد كل واحد أنه مخاطب بهذا القرآن ومأمور باتباعه .

وتكمن أهمية القدوة الصالحة من خلال الآتي :

إن القدوة الصالحة تثير في نفوس الآخرين الإعجاب والمحبة التي تتهيج معها دوافع التنافس المحمود فيتولد لديهم حوافز قوية لأن يتمثلوا أخلاق وأفعال قدوتهم .

القدوة الصالحة المتحلية بالقيم والمثل العليا الحميدة تعطي للناس قناعة بأن بلوغ هذا المستوى الرفيع  هو من الأمور الممكنة وأنها في متناول قدرات الإنسان وطاقاته .

إن واقع الناس اليوم يشكو القصور والانحراف رغم انتشار العلم ، ما لم يقم بذلك العلم علماء وقادة عالمون مخلصون يصنعون من أنفسهم قدوات في مجتمعاتهم ، يترجمون ذلك العلم إلى واقع عملي يفهمه الجميع ، وهذا يُسهّل في إيصال المعاني الأخلاقية ويحدث التغيير المنشود إلى الأفضل .

إن غياب القدوة الصالحة من المجتمع عامل رئيس في انتشار المنكرات واستفحالها وإفشاء الجهل بين الناس ، ومن هنا تكمن أهمية القدوة الصالحة ، فكلما ازدادت القدوات انتشر العلم واختفت المنكرات ، لذلك فنحن نحتاج إلى قدوات يدعون الناس بأفعالهم لا بأقوالهم ، قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ] {الصَّف: 2-3}  .

لا ينكر أحد ما للمدرس القدوة من الأثر الكبير في الرقي وإصلاح المجتمع الإنساني علمياً وخلقياً وأدبياً وصحياً واجتماعياً لأن أثر المدرس الصالح يظهر على نفوس تلاميذه فيغرس فيهم الفضائل والأخلاق الحسنة وما يراه خيراً للأمة والوطن .

والقدوة الصالحة أعظم من المناهج الدراسية والقوانين الجامعية أو الأبنية الفخمة لأن للأستاذ الجامعي أثراً كبيراً على طلابه في علمه وأدبه وعمله ومهارته التدريسية وسائر أخلاقه وتصرفاته  .

ولم تصل التربية الحديثة إلى أبدع من اتخاذ القدوة الصالحة وسيلة إلى بناء الجيل الطلابي ، فالمعلم القدوة هو الذي يرتقي بالأمة إلى أسمى درجات الحضارة والمدنية ، وبالمدرسين المخلصين تنهض الأمة من كبوتها وتنتصر على أعدائها .

وأقولها بصراحة إذا أردت أن ترى أثر المدرس فانظر إلى الأمم الراقية في مستواها الصحي والتعليمي والسياسي والمعيشي تجدها أثراً من آثار المدرسين الصالحين القدوات المخلصين .

والإسلام لا يعرض هذه القدوة من أجل الإعجاب السالب والتأمل التجريدي في سبحات الخيال ، وإنما يطلب منها أن تظل شاخصة ماثلة أمامنا تتدفق في حيوية وعمل يحقق الخير الوفير للمجتمع  .

اخوتي في الله ، اعلموا أن مصادر القدوة الصالحة إنما تكمن في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وأقوال السلف رضوان الله عليهم أجمعين ، لاجل هذا  أوصى صلى الله عليه وسلم  باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده ، لقوله  : (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبدٌ ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) .

كما قرر صلى الله عليه وسلم  أن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من اقتدى بها إلى يوم القيامة ، فعن أبي عمرو جرير بن عبد الله رضي الله عنه  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).

كما أوصى صلى الله عليه وسلم  بالاقتداء بأبي بكر وعمر بن الخطاب بنص صريح فقال : (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر) ، كما أمر صلى الله عليه وسلم  بالاقتداء به في الصلاة فقال : (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وأمر المؤمنين بالاقتداء به في تأدية مناسك الحج فقال صلى الله عليه وسلم  : (خذوا عني مناسككم).

وذكر عبد الله بن مسعود  محامد الصحابة  وفضائلهم ووجوب الاقتداء بأفعالهم الحميدة وأخلاقهم النبيلة فقال : “من كان متأسياً فليتأسّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، وأقومها هدياً وأحسنها حالاً ، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم  وإقامة دينه ، فاتبعوهم في آثارهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم” .الصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم ، وهم أولياء الله تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله ، وهذا مذهب أهل السنة فلا يجوز لأحد أن يبغض أحداً منهم حيث جاء عن الإمام مالك  أنه قال : “من كان يبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم  أو كان في قلبه عليهم غلّ فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم قرأ : [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {الحشر:10}  .

اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أحبتي في الله

إن القدوة الحسنة ینبغي أن تكون الیوم قیمة مشاعة بین الأجیال محببة إلیھم. غیر أن إشاعتھا تحتاج إلى تدرج بعد استیعاب، ولأجل ذلك فھي تحتاج إلى طول نفس لدى المعنیین بإشاعتھا. وإشاعة القدوة الحسنة في الحیاة العامة ضروریة للتغییر الإیجابي المتوقف على تغییر أحوال النفوس كما قال تعالى: ﴿إن االله لا یغیر ما بقوم حتى یغیروا ما بأنفسھم﴾. ومن أرقى صور التغییر الإیجابي في مجتمعاتنا: تخلیق الحیاة العامة. وأخطر شيء على الأجیال أن تنسحب القدوة الحسنة من میادین السلوك. ومن مصادر التوجیه، بید أن وجود القدوة الحسنة یتوقف نجاحه على التزام أسلوب الحكمة في إشاعتھا.فالعاملون في میادین السلوك، والمرابطون في ثغور حمایة الأجیال یرقبون الغافلین عن متطلبات القدوة الحسنة في مجتمعاتھم فینصحونھم برشات من الھدى الراشد كي یفیقوا من غفلتھم. إنھم یمِدون الأجیال بنفحات من الأدب الزكي ویحثونھم على العمل بمنھج سوي لا مكان فیه للإثارات ولا للتشنجات، وذلك من مقتضیات قولھ تعالى: “ادع إلى سبیل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”. 14

وإن أولى الناس بتخلیق الحیاة العامة-بالقدوة الحسنة.أولئك الذین حملوا أمانة رعایة أجیال الأمة، وحیاطة شؤونھا، وحفظ مصالحھا

ومن أبرزھم: – العلماء الربانیون -الآباء والأمھات -الأساتذة والمربون -الكتاب ، المسئولون عن تدبیر الشأن العام،.

فالعلماء یعملون لحیاطة الجماعة وإقامة كیانھا، وھـم الذین یملكون أسباب القوة الأخلاقیة والفكریة التي ھي سابقة بالضرورة على أي قوة أخرى مادیة. ومقتضى وراثة النبوة التي جعلھا النبي صلى االله علیھ وسلم من حق العلماء في قوله “العلماء ورثة الأنبیاء، الالتزام بغـــــرس جذور القدوة الحسنة، ورعایتھا وتنمیتھا حتى تستغلظ وتستوي على سوقھا في كل أرجاء المجتمع. إنھم یحملون أمانة العلم لیصدعوا بالحق بلا إدھان ولیشیعوا الخیر بلا فتنة. غیر أن ھذا المقتضى مشروط بمقتضى آخر وھو: ترجمة الدعوة إلى القدوة بالعمل والسلوك حذرا من أن یكونوا كالـــذین قال االله فیھم: ﴿أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون﴾

أما الآباء والأمھات فعلیھم أن یدركوا أن التربیة عامة والتربیة بالقدوة الحسنة خاصة، ھي الأداة القویة لحمایة الأجیال وترشید مسیرتھم في الحیاة، وھي الوسیلة لتواصل الأجیال ولتلاحم حلقات  الحضارة، وعلیھم أن یدركوا أن قلوب الأطفال جواھر نفیسة تقبل ما ینقش فیھا.

والأساتذة والمربون یكملون دور الأسرة ویقومونه في ھذا المجال على أن جھدھم التربوي لا یؤتي أكله إلا بشرطین. أحدھما: تمثل المنھج التربوي الإسلامي بكیفیة صحیحة- في حیاتھم. وثانیھما:مواجھة مناھج تربویة بعیدة عن المنھج التربوي الإسلامي .

أما الكتاب- كیفما كان المیدان الذي یكتبون فیه. فعلیھم أن یستحضروا خطورة انفعال الحیاة العامة بما یكتبون ، وذلك یفرض علیھم أن یسخروا أقلامھم في البناء ویضیئوا فضاءات الحیاة العامة بما یكتبون. إنھم یتحملون عبء إیقاظ كل نائمة من طاقات الإنسان لتتجه إلى العلیاء في كل عمل یتولاه، فیسخر كل قواه لخدمة مجتمعه.

والمسؤولون عن تدبیر الشأن العام: یرعون حرمة الدماء والأعراض والأموال ویقیمون حولھا سیاحا من الأمن، ثم ینشرون ما یحبب ذلك إلى أجیالھم عن طریق احترامھم لھذه الحرمات. وھم یحمون الآداب العامة أن تتسلل إلیھا الملوثات، ویحسنون تدبیر الشأن العام بما یفرضه الأمر الإلھي بتأدیة الأمانات إلى أھلھا والحكم بین الناس بالعدل دون جور أو رشوة أو فساد.

ومما تجدر الإشارة إليه انه لابد من  إيلاء مزید من العنایة للأجیال في مؤسساتنا التعلیمیة بجمیع مستویاتھا، بترویضھم على أخذ قواعد القدوة الحسنة أخذا تنشرح به صدورھم فلا تضیق، وتتقد به عقولھم فلا تخمد، وتؤوب إلى حیاتھم البریئة المعاني والمثل الرفیعة، وتنزاح به الانعكاسات السیئة للتصرفات السیئة التي تصدم براءتھم ھنا وھناك. وتشرق به حقائق الدین الناصعة على مزایا نفوسھم فلا تظلم أبداكما تجب  العنایة بالأسرة في جوانبھا التربویة خاصة، إذ لوحظ –في بعض البیئات- انفلات زمام التربیة من أیدي كثیر من الآباء والأمھات، إنھم بحاجة إلى ما یسمیه علماء التربیة بالتطبیع الاجتماعي في صورته الإیجابیة كما يجب  تفعیل دور وسائل الإعلام وحمایتھا من تسرب شوائب قد ترســـخ في نفوس أجیالنا فتضخم وتضخم حتى تصبح أدواء یستعصي علاجھاكما تجب  العنایة ايضا بما نسمیه الیوم بالمجتمع المدني، فلا بد أن یكون بین كل مكوناته من مؤسسات وھیئات وجمعیات میثاق شرف یجمعون على الوفاء له،وھو میثاق یجعل المصلحة العامة فوق المصلحة الشخصیة، ویجعل طھارة ذیول أجیالنا وسلامة دینھم وأخلاقھم أولى الأولویات كل هذا دون اغفال  مقاومة الفساد بكل صوره وأشكاله  مقاومة بعیدة عن روح الانتقام.

 

احبتي في الله

إذا غفل الناس في حیاتھم العامة عن التماس القدوة الحسنة ، أو غابت عنھم تلك القدوة أوعزّ وجودھا، حتى حلت القدوة السیئة محلھا ھان علیھم الفساد الذي یستشري حتى یصبح طابعا عاما للحیاة العامة، وملكة تنطبع بھا النفوس فتتمكن منھا الأھواء التي تسقط البشر في وھاد عمیقة من الانحطاط الخلقي الذي ینزل الإنسان من علیاء السیادة إلى حضیض الاستعباد ، والقدوة الحسنة المشاعة ھي القادرة على الحد من طغیان الھوى والفساد الذین یجعلان المجتمع مذأبة یفترس فیھا القوي الضعیف، فیذوق الجمیع لباس الجوع والخوف بما كانوا یصنعون. وتتحقق القدوة الحسنة لا يتاتى الا بالارتكاز على عنصرين هامين . الأول: الدین، والدین ھو رأس الأمر وبه یصبح الإنسان قادرا على ضبط أھوائه ونزعاته وغرائزه والعنصر الثانيه و  الأخلاق، وھذان العنصران أي  الدین والأخلاق ھما اللذان یعبدان الطریق للقدوة الحسنة لولوج فضاءات الحیاة العامة، فتزداد طھرا وتماسكا.

 

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من العاملين بشريعته، المتمسكين بها، الثابتين عليها، وأن يجعلنا ممن يرد عليه حوضه يوم القيامة، إنه على كل شيء قدير.هذا وصلوا رحمكم الله على محمد ، كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا))

اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب محمد أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم صل على نبينا محمد ما ذكره الذاكرون، وصل عليه ما غفل عن ذكره الغافلون. اللهم أحينا على محبته، وأمتنا على ملته، وثبتنا على سنته، وأكرمنا بشفاعته، وأوردنا حوضه، واسقنا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وأنِلنا شرف صحبته في عليين، مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

اللهم وفق ملك البلاد أمير المؤمنين محمد السادس لما تحب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم كن له معينا ونصيرا وأعنه وانصره على أعدائه وأعداء المغرب . اللهم امدده من عندك بالصحة و العزم و القوة و الشجاعة والحكمة و القدرة و التوفيق لما فيه مصلحة العباد و البلاد و الأمة الإسلامية قاطبة، و اجعله لدينـــــــــــك  و لأمتك ناصراً ، و لشريعتك محكماً .. اللهمّ خذ بيده، وّ احرسه بعينيك الّتي لا تنام، وأحفظه بعزّك الّذي لا يضام، وأيِّده بالحق وارزقه البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام.وأحفظه اللهم في ولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن وشد أزره بأخيـــــــه المولى رشيد وسائر الأسرة العلوية  المجيدة . وتغمد االله برحمته الواسعة الملكين المنعمين المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني، والملك المجاھد المكرّم جلالة الملك محمد الخامس تغمدهما الله برحمته وادخلهما فسيح جنانه..

 

اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن كافة الصحابة من المهاجرين والأنصار وعن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الستة الباقين من العشرة الكرام البررة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة،اللهم انفعنا بمحبتهم، ولا تخالف بنا عن نهجهم، يا خير مسؤول ويا خير مأمول .اللهم ارزقنا الفقه في الدين، والتمسك بالكتاب المبين، والاقتداء بسيد المرسلين، والسير على نهج أسلافنا الصالحين.  ربنا لا تزغ قلوبنا بعد  إذ هديتنا….. الآية .

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *