الغيبة: فاكهة المجالس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، ونهاه عن الغيبة والنميمة والكذب وآفات اللسان، نحمده تعالى ونشكره على ما أولانا به من فضل وإحسان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها دخول الجنان، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات والبرهان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كان شعارهم الصدق والإيمان، وسلم تسليما كثيرا ما تعاقبت الليالي وتوالت الأزمان، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، اتقوا الله في أنفسكم، وتحفظوا من آفات ألسنتكم، فإن كلامكم محفوظ عليكم، ومسجل في كتاب عند ربكم، ذلكم الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها عليكم، قال الله تعالى محذرا عباده مما يتلفظون به: “ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد”، وقال أيضا: “وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وتحسبونه هينا، وهو عند الله عظيم”، وقد أمر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بالصمت إلا إذا كان الكلام خيرا، فقال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت”، وموضوع خطبة اليوم هو: “فاكهة المجالس”، أتدرون ما هي هذه الفاكهة؟ إنها “الغيبة”، إنها نهش أعراض المسلمين، وقد انتشر هذا المرض بين عامة المسلمين وخواصهم، بين العلماء وطلاب العلم، وبين التجار وغيرهم، لا يستقر مجلس إلا بهذه الفاكهة، ولا تستحسن السهرات إلا بذكرها، حتى كادت تعم مجالس المسلمين والمسلمات، فلا يكاد يخلو مجلس من هذه الفاكهة إلا من رحم ربك، فرائحة الغيبة المنتنة أصبحت تفوح من المجالس الخاصة والعامة تشتمها على قارعة الطريق، وفي التجمعات، وفي وسائل المواصلات، وحتى غرف النوم، فما إن يدخل الرجل غرفة نومه حتى تقول له زوجته: أمك صفاتها كذا وكذا، وأختك تعمل كذا وكذا، وعمتك تقول كذا وكذا، وخالتك … ومن الرحال أيضا من يكون هو البادئ بفتح الشهية لهذه الفاكهة (الغيبة)، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أيها الإخوة المؤمنون، اعلموا أن الله تبارك وتعالى قد نهانا عن الغيبة، وصور المغتاب بأقبح صورة في كتابه الكريم، وشبهه بأقذر حيوان فقال سبحانه: “ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم”، فقد شبه سبحانه المغتاب بالكلب، والكلب هو الحيوان الوحيد الذي يأكل لحم أخيه بعد موته، فالأسد لا يفعلها، وكذلك سائر الحيوانات، الكل يشمئز منها ولا يفعلها، لا يفعلها إلا الكلب، ولو كشف عنا الغطاء لرأينا معظم مجالس الناس اليوم بين أيديهم مسلم ينهشون في لحمه، كل منهم يتناول قطعة منها ولا تجد أحدا يرد عن عرض أخيه أو يدفع عنه لينقذ لحمه من بين مخالبهم وأنيابهم، واعلم أخي المسلم واعلمي أختي المسلمة، أن ذكرك أخاك في غيبته بما يكره محرم عليك، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (ض) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه”، وعرضه هو شرفه وكرامته، وسيرته. واعلم أخي المسلم أنه لن يسلم لك إسلامك ولن يتحقق لك كمال إيمانك إلا إذا سلم المسلمون من شر لسانك، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (ض) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”، أخي المسلم انك إذا أطلقت لسانك في أعراض المسلمين فإن ذلك دليل على نقصان إيمانك إذ لم يمنعك من اغتياب الناس، فقد روى أبو داود من حديث أبي برزة الأسلمي (ض) قال: “خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتهن، قال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يومن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عورة أخيه يتبع الله عورته ومن تبع الله عورته يفضحه في جوف بيته”، وإذا كان ذكر الله تعالى يقوي الإيمان في الذاكرين، فإن ذكر الناس يضعف الإيمان ويقرب العبد من الشيطان، واحذر أخي المسلم من تلبيس إبليس، فإنك حين تغتاب غيرك يصور لك الشيطان أنك أزكى منه خلقا وخلقا، أو أنك حين تغتابه بما هو عليه من حالة خلقية أو خلقية أنك إنما تريد له الخير وأنه من باب النصيحة، كلا وألف كلا، بل هو من باب الفضيحة، إذ النصيحة الصادقة تكون حينما تتصل به سرا وتخبره بعيوبه وتدعو له بظاهر الغيب أن يعافيه الله منها. وصدق الشافعي رحمه الله يوم قال: ** تعمدني بنصحك بانفرادي ** وجنبني النصيحة في جماعة ** فإن النصح بين الناس نوع ** من التذبيح لا أرضى استماعه. قال الحسن البصري (ح): والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد. وقال عمر بن الخطاب (ض): “عليكم بذكر الله فإنه دواء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء”. فاللهم إنك تعلم ذنوبنا فاغفرها، وعيوبنا فاسترها، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، مسكين هذا الرجل الذي يحافظ على الصلاة في جماعة، ويحافظ على أذكار الصباح والمساء، ولا يمر يوم إلا وقد قرأ جزءا من كتاب ربه عز وجل، ولكنه رغم ذلك يبيت يوم يبيت ولا حسنة له، إنه وزعها على الناس الذين اغتابهم، فرقها بلا حساب، لأنه لا يجلس في مجلس إلا ويتناول أعراض الناس، حقا إنه المفلس، يجمع الحسنات ولا ينتفع بها، ويتعب في جمعها ولا يستفيد، وصدق الحبيب صلى الله عليه وسلم يوم قال: “أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ” أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي؟ ” قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِه، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُقْتَصُّ لِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ “، قيل للحسن البصري إن فلانا قد اغتابك، فبعث له الحسن رطبا على طبق وقال له: (قد بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك عليها على التمام). أيها المغتاب النمام، استمع إلى عقابك في القبر، ففي الصحيحين عن ابن عباس (ض) أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: “أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة” وفي رواية أخرى “كان يغتاب الناس”، وفي رواية أخرى “كان يأكل لحوم الناس”، فالمغتاب يعذب في القبر بسبب الغيبة، ولكن كيف يعذب في قبره؟ يخمش وجهه بأظفاره حتى يسيل الدم من وجهه وفمه وعينه ومنخره كما كان يغتاب الناس في الدنيا جزاء وفاقا، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح من حديث أنس (ض) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم”، أيها المغتاب، احذر من كثرة الكلام الذي لا فائدة فيه، فإنه يؤدي إلى قساوة القلب كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي”. فأكثروا إخواني أخواتي من الصلاة والتسليم على أشرف الورى وسيد المرسلين، الدعاء.