العلوم التي تحتاجها عبادة الله، وعلى من يصلح أخذها في زماننا؟
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،
أما بعد، فياعباد الله، مامن رجل عاقل كيس فطن غير غافل عن ربه، إذا سئل عن أولى الأولويات في حياته إلا سوف يجيب: بأن أولى الأولويات في حياته هي التحقق بعبادة الله تعالى حتى يعرفه حق معرفته، وذلك هو المعبر عنه في قوله عز وجل:”وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ماأريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون”، فالغاية إذن من وجودنا في هذه الدنيا، هي عبادة الله تعالى ومعرفته عز وجل، ولكن السؤال الأهم هنا، هو كيف تتم عبادة الله، أبالعلم أم بالجهل؟ فإذا كان الجواب بأنه ينبغي عبادته عن علم، فماهي أهم العلوم التي ينبغي أخذها والعلم بها؟ وعمن ينبغي أخذها في أيامنا هذه؟ هذا هو موضوع خطبتنا لهذا اليوم.
أيها الإخوة الكرام، كثيرا مانسمع على ألسنة الناس قولهم: “لايعذر أحد بجهله للقانون”، هذا في أمور الدنيا، أما أمور الآخرة التي نحن ذاهبون إليها فماذا نقول؟ نقول: “لايعذر أحد بجهله للضروري من علوم الدين”، ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله فيما يتصل بتفسير القرآن: “أن التفسير أربعة: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسره العرب بألسنتها، وتفسير تفسره العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله”، وذكر العلماء أن من أهم العلوم التي لايعذر أحد بجهلها، ويستعان بها على عبادة الله ومعرفته، هي التفقه في الدين بمعرفة الحلال والحرام، وهو مايعرف بالضروري من علوم الدين، بدراسة شيء من علوم الإسلام، كالتشبع بمعرفة عقائد الإسلام ودلائلها والأحكام المتعلقة بأركان الإسلام والإيمان والإحسان، وتلاوة كتاب الله تلاوة صحيحة متقنة بتدبر وتمعن، وذلك بتعلم القرآن تلاوة ثم دراية وتفسيرا، وتعلم الأخلاق الإسلامية المؤهلة لتربية الأولاد، وتنشأتهم في ظل التعاليم الإسلامية، وإدخال حب الله وتعظيمه في قلوبهم، ومراقبة سلوكهم أن لا يشرد عما أمر الله به، وأن لا يجنح إلى ما نهى الله عنه، هذه هي أهم العلوم التي تجب معرفتها لعبادة الله عن علم وبشكل صحيح.
فإذا عرفتم هذا أيها الإخوة والأخوات، قد يسأل سائل، فماهو الجهل الذي يعذر الإنسان في حال التلبس به؟ أقول في الجواب، الجهل نوعان، جهل يعذر فيه الإنسان، وجهل لا يعذر فيه، فما كان ناشئاً عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم، فإنه لا يعذر فيه، وما كان ناشئاً عن خلاف ذلك، أي أنه لم يهمل ولم يفرط ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء حرام فإنه يعذر فيه، فعلى هذا من نشأ ببادية بعيد ليس عنده علماء ولم يخطر بباله أن هذا الشيء حرام، أو أن هذا الشيء واجب، فهذا يعذر، وأما من كان بالعكس كالساكن في المدن يستطيع أن يسأل، لكن عنده تهاون وغفلة، فهذا لا يعذر، لأن الغالب في المدن أن هذه الأحكام لا تخفى عليه، ويوجد فيها علماء يستطيع أن يسألهم بكل سهولة، فهو مفرط، ولا يعذر بالجهل، لأن من شروط الإيمان عند أهل السنة والجماعة وجود العلم والمعرفة.
أيها الإخوة الكرام، بقي أن أجيب على سؤال مهم عليه مدار هذه الخطبة، وهو عمن ينبغي أخذ هذه العلوم الضرورية؟ لأنه في أيامنا هذه اختلط الحابل بالنابل، ووجدت كل من هب ودب يعلم ويفتي بغير سند ومن غير تزكية علمية، وكثر الرجوع للقنوات الفضائية وللشبكة العنكبوتية للبحث عن أجوبة الناس واهتمامات الناس دون تثبت وتبين، وكثُر الذين تشبهوا بالعلماء والفقهاء، بل إنه في أيامنا هذه غلب صغار طلبة العلم على العلماء، فصار لفظ العلماء والدعاة علماً بالغلبة في أولئك الذين يشاغبون الشغب، فأخذوا هذا اللقب من العلماء واستنكروا للعلماء وزهدوا الناس في العلماء.
وفي هذا المقام أقول: إن كل التخصصات والميادين يحتاج فيها المرء لشيخ يدرسه ويعلمه، إلا الدين فإن بابه مفتوح على مصراعيه في أيامنا هذه، ولذلكم كثرت الفتنة في المجتمع المسلم، وكثر الخلاف والشقاق بين أبناء المجتمع الواحد، ووجد المتشددون في الدين، المتطرفون في التحقق بأحكامه داخل مجتمعاتنا، وقل الرجوع للعلماء العاملين الربانيين لسؤالهم أو التتلمذ على أيديهم أو حضور حلقاتهم، روى الإمام مسلم عن ابن سيرين رضي الله عنه، التابعي الجليل، أنه قال:” إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”، وروي هذا الأثر عن الإمام مالك رحمه الله أيضا، فهذا الأثر مهم في مسائل تلقي العلم، فلا يمكن بحال أخذ العلم عن أي رجل مجهول – ليس عنده تزكيات من أفاضل العلماء – لأن هذا العلم دين، فهو أصل لأخذ الدين، فلا يمكن أخذه ممن لا يعرف منهجه وعلمه، وفي هذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي:” يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”، وقال الإمام مالك رحمه الله لايؤخد العلم عن أربعة: “سفيه معلن السفه، وصاحب هوى يدعوا إليه، ورجل معروف بالكذب في أحاديث الناس وإن كان لايكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجل له فضل وصلاح لا يعرف ما يحدث به”، وقال ابن العربي المالكي:” فما زال السلف يزكون بعضهم بعضا ويتوارثون التزكيات خلفا عن سلف، وكان علماؤنا لايأخذون العلم إلا ممن زكي وأخذ الإجازة من أشياخه”.
وقد ورد في بعض الآثار أن موسى عليه السلام سأل ربه أي عبادك أعلم؟ قال: الذي لا يشبع من العلم”، فمن كان هذا حاله فهو العالم الذي يستحق هذا اللفظ الجليل، إذْ هو المبلغ لشرع الله تعالى، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:”إنّكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه، فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم”، وقال أيضا رضي الله عنه فيما صح عنه:”لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم وعن علمائهم، فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا”.
ومما يجدر ذكره هاهنا، أننا في زمان قد تهيأت فيه الأسباب لتبليغ ونشر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في البلدان عن طريق الوسائل المختلفة، التي جعلت سائر أقطار العالم كالبلد الواحد، إلا أن العذر بالجهل لايزال ظاهراً في عصرنا، حيث قل أهل العلم العاملين الربانيين، وكثر الأدعياء الذين يزينون الباطل، ويلبسون عليهم، ووجد من يستغل هذه التكنولوجيا الحديثة في فتنة المسلمين بالفتاوى الباطلة والعلم الشاذ المتطرف، ولن يهدأ لهؤلاء بال ولا يعرفون راحة إلا إذا فتنت مجتمعاتنا.أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فياعباد الله، أمام هذا الواقع الذي وصفت لكم، بقي أن أحذركم من أخذ العلم عن بعض الجهلة الذين لايحسنون الدعوة إلى الله، والذين يفسدون أكثر مما يصلحون، من صفاتهم الحماس الزائد، وأخذ الأمور بالعجلة والطَّيش، يتولد عن فعلهم من الشُّرور مالايعلمه إلا الله، شوشوا أفكار الشباب باسم الدعوة والغيرة على الدّين، وانحرفوا بهم ونفروهم عن مجتمعهم وعن ولاة أمورهم وعن علمائهم، يأتونهم بطريق النّصيحة وبطريق الدّعوة في الظّاهر، واعلموا أن فيمن ينتسب للدَّعوة اليوم، مضلِّلون يريدون الانحراف بالشَّباب وصرف الناس عن الدِّين الحقِّ وتفريق جماعة المسلمين والإيقاع بها في الفتنة، والله سبحانه وتعالى حذَّرنا من هؤلاء فقال: ”لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ”، فليست العبرة بالانتساب أو فيما يظهر بحسب الظاهر، بل العبرة بالحقائق وبعواقب الأمور.
وهناك أمر آخر مهم أوجهكم إليه بخصوص الأشخاص الذين ينتسبون إلى أهل العلم والدَّعوة إلى الله في زماننا هذا، يجب أن يُنظر فيهم: أين دَرَسوا؟ ومِن أين أخذوا العلم؟ وأين نشؤوا؟ وما هي عقيدتهم؟ وتُنظرُ أعمالُهم وآثارهُم في الناس، وماذا أنتجوا من الخير؟ وماذا ترتَّب على أعمالهم من الإصلاح؟ يجب أن تُدرس أحوالهم قبل أن يُغتَرَّ بأقوالهم ومظاهرهم، هذا أمر لا بدَّ منه، خصوصًا في هذا الزَّمان، الذي كثر فيه دعاة الفتنة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم دعاة الفتنة بأنهم قومٌ من جلدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ عن الفتن؛ قال فيما رواه الإمام البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (دُعاةٌ على أبواب جهنَّمَ، من أطاعَهُم؛ قذفوه فيها)، تأملوا في هذا الحديث فقد سماهم النبي صلى الله عليه وسلم دُعاةً!
فعلينا أن ننتبه لهذا، ولا نعد في أهل العلم والدَّعوة كلَّ من هبَّ ودبَّ، وكل من قال: أنا أدعو إلى الله، لا بدَّ من النَّظر في واقع الأمر، ولا بدَّ من النَّظر في واقع الأفراد والجماعات؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى قيَّد الدَّعوة إلى الله بالدَّعوة إلى سبيل الله؛ قال تعالى: ”قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ”؛ دلَّ على أنَّ هناك أناسًا يدعون لغير الله، والله تعالى أخبر أنَّ الكفَّار يدعون إلى النار، فقال: ” أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ”؛ فالدُّعاة يجب أن يُنظَرَ في أمرهم، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: “عليك بطرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلال ولاتغتر بكثرة الهالكين”، والحمد لله رب العالمين