الصلاة من ثمار معجزة الإسراء والمعراج
الصلاة من ثمار معجزة الإسراء والمعراج
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الحمد لله الذي أكرم نبينا بالمعجزات، وأيده بالبراهين الساطعات، وأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى المحفوف بالبركات، ثم عرج به إلى أعلى الدرجات، نحمده تعالى ونشكره على ما أسبغ علينا من خيرات، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو خالق الأرض والسماوات، شرف نبينا محمدا وأمته تشريفا عظيما بمعجزة الإسراء والمعراج اهتزت له المخلوقات، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الخاتم للرسل والرسالات، تلقى من ربه ليلة الإسراء والمعراج فريضة الصلاة هدية له ولأمته في اليوم والليلة خمسة أوقات، ﷺ وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون المؤمنات، في الجمع الماضية تناولنا الحديث عن معجزة الإسراء والمعراج التي لا زلنا نتفيأ ظلالها، ونتملى في اكتشاف أسرارها، بذكر نتائجها وآثارها على حبيبنا محمد ﷺ وعلى أمته من بعده إلى أن يرث الله الأرض والسماوات، وذكرنا بأنها ليست كباقي المعجزات التي اختص الله بها رسله ﷺ تنقضي وتنتهي عبر الزمان، بل كتب الله تعالى أن تخلد مع الإنسان طول الزمان، وعلى كل حال، وهي بمثابة عروج روحاني لكل مسلم خمس مرات في اليوم والليلة يقف بين يدي ربنا سبحانه وتعالى كما وقف حبيبنا المصطفى قاب قوسين أو أدنى من ربنا عز وجل، ويناجيه كمناجاة سيدنا رسول الله ﷺ عند سدرة المنتهى، ويتلقى من ربه هدية الكريم بقبول مناجاته، واستجابة دعائه، لذا كانت الصلاة أحب الأشياء إلى رسولنا المصطفى ﷺالذي قال: “وجعلت قرة عيني في الصلاة”، وكان ينادي بها مؤذنه بلال ابن رباح فيقول له: “أرحنا بها يا بلال”، أيها الإخوة المؤمنون، فريضة الصلاة عبادةٌ قديمة، فما شريعة من شرائِعِ الله إلا وللصّلاة فيها ذكر، لكن الصلواتُ الخمس التي فرضها الله على أمتنا في هذه الشريعة العظيمةِ لها خصوصيّتها وفضائلها. ذكر الله في دعاءِ الخليل عليه السلام قولَه: “رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي”، ويمدَح ابنَه إسماعيل الذبيحَ حينمَا قال عنه جلَ جلاله: “وكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا”، ويأمُر بها موسَى عليه السلام في قوله: “وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي”، وينطق بها عيسى ابن مريم في مهده: “وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا”، ويذكُرها الله جلّ وعلا صفةً من صفات المؤمنين بالغَيب: “الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة”، ويفتَتِح ويختَتِم بها صفاتِ المؤمنين في قوله: “قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ” إلى قوله: “وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ”، ويخبر تعالى عن أهلِ النّار إذا سئلوا: “مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ” أجابوا: “لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدينِ”، فالصّلاة إذًا دالّةٌ على وجودِ الإيمانِ في القلب، وتركُ الصلاة والعياذُ بالله عنوان على خلوِّ القلب من الإيمان. وقد ذمَّ الله المتخلفين عنها وتوعَّدهم بالوعيد الشديد فقال جل وعلا: “فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا”، وقال: “فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ”، أيها الإخوة المؤمنون، فريضة الصلاة كانت فرضيتها على الأمة في موكب تكريم رباني، تميز باستدعاء نبينا ليلة الإسراء والمعراج التي تحل بنا ذكراها اليوم على أصح الروايات، لحضرة القدس فتلقاها نبينا ﷺ من ربنا مباشرة، وهذا دليل على علو مكانتها من بين الفرائض، وأن جميع المسلمين مطالبون بأدائها، ولا يعذر أحد بتركها، يؤديها المسلم بطهارتها وبخشوعها وبإقامتها في وقتها والمحافظة عليها، وإذا تعذر عليه ذلك، لمرض أو علة فإن الله تعالى جعل من اليسر أسبابا لإقامتها، فبدل الوضوء نتيمم، وبدل القيام نؤديها قعودا أو على جنوبنا، وإذا تعذرت إقامتها في وقتها فإنها تؤخر أو تجمع مع صلاة أخرى، لكنها تؤدى على كل حال، فالصلاة يؤمر بها كل مسلم بلغ سبع سنين، ولا تسقط عن البالغ سفرًا ولا مرضًا، ولا تجب على أحدٍ دون أحدٍ، أما غيرها من العبادات فلا تجب على كل مسلم، فالصوم لا يجب إلا على القادر، والزكاة لا تجب إلا على من ملك مالا وبلغ نصابًا، والحج لا يجب إلا على المستطيع. وأكثروا من التوبة والاستغفار، فإن الله يحب التوابين والمستغفرين والمنيبين وكونوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. نفعني الله وإياكم بكتابه المبين، وبسنة نبيه المصطفى الأمين، وغفر لي ولكم وللمسلمين أجمعين، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون، لقد علم سلفنا الصالح أسرار إقامة الصلاة فكانوا أشد حرصا على المحافظة عليها في أوقاتها، وإقامتها بما يليق وشأنها من طهارة حسية ومعنوية، فهي معراج الأرواح، وطاقة ربانية يجد لذتها من عرف مكانتها، قال ﷺ: “اعلم أنك لا تسجد لله سجدة إلا رفع الله لك بها درجة وحط عنك بها خطيئة”، وفي الحديث عنه ﷺأنه قال: “إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه”، ويُؤَيِّدُهُ مَا رواه الإمام مسلم عَن سيدنا عُثْمَانَ (ض) أَنَّهُ دَعَا بِطَهُورٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: “مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِن الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ”، وعن سيدنا عبد الله بن مسعود (ض) قال: قال رسول الله ﷺ: “تحترقون تحترقون ، بمعنى تقعون في الهلاك بسبب الذنوب الكثيرة فإذا صليتم الصبح غسَلَتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا”، وقال أيضا في بيان فضلها: “صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين” أَيْ مَكْتُوب وَمَقْبُول تَصْعَد بِهِ الْمَلَائِكَة الْمُقَرَّبُونَ إِلَى عِلِيِّينَ لِكَرَامَةِ الْمُؤْمِن وَعَمَله الصَّالِح. أيها المؤمنون، فضائل فريضة الصلاة ليس لها عد ولا حصر، ولا تفي خطبة جمعة واحدة لإستقصائها، وإنما نشير إلى بعض منها لتكون لنا نبراسا نستضيئ به كلما استقبلنا القبلة، مستشعرين وقوفنا ومناجاتنا لربنا عز وجل، بتلاوة كتابة ورفع حوائجنا إليه، واثقين بأنه سبحانه وتعالى ما فرض الصلاة علينا إلا ليمنحنا ما نحتاجه، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ”، فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا عِظَمَ قدر الصلاة، واحرصوا عليها رحمني الله وإياكم، وأكثروا من الصلاة والتسليم على أشرف الورى وسيد المرسلين، الدعاء.