الشعودة -1-
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،
أما بعد، فياعباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:” بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد”، ويقول عز وجل: “بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس”، ذكر في سبب نزول هاتين السورتين، أنه كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتت إليه اليهود، ولم يزالوا به حتى أخذ مشاطة النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك لبيد بن أعصم اليهودي، ثم دسها في بئر لبني زريق يقال لها ذروان، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتثر شعر رأسه، ويرى أنه يأتي نساءه ولا يأتيهن، وجعل يدور ولا يدري ما عراه، فبينما هو نائم ذات يوم، أتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه: ما بال الرجل؟ قال: طب قال: وما طب؟ قال: سحر قال: ومن سحره؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي قال: وبم طبه؟ قال: بمشط ومشاطة، قال: وأين هو؟ قال: في جف طلعة تحت راعوفة في بئر ذروان، والجف: قشر الطلع والراعوفة: حجر في أسفل البئر يقوم عليه المائح، فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عائشة ماشعرت أن الله أخبرني بدائي، ثم بعث علياً والزبير وعمار بن ياسر فنزحوا ماء تلك البئر، كأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة وأخرجوا الجف فإذا هو مشاطة رأسه وأسنان مشطه، وإذا وتر معقد فيه أحد عشر عقدة مغروزة بالإبر، فأنزل الله تعالى سورتي المعوذتين، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة، حتى انحلت العقدة الأخيرة، فقام كأنما نشط من عقال، وجعل جبريل عليه السلام يقول: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن حاسد وعين، الله يشفيك، فقالوا: يا رسول الله أولا نأخذ الخبيث فنقتله فقال: أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن أثير على الناس شراً.
أيها الإخوة الكرام، هاأنتم ترون بأن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم عاداه جماعة من الناس وآذوه بالسحر والشعوذة، ومرض من أجل ذلك إلى أن تداركه الخالق عز وجل بالشفاء، مما يدل على أن عداوة الإنسان لأخيه الإنسان حاصلة عن طريق الشعوذة والسحر، يفكر فيها أصحاب الأنفس الشريرة من الحساد والحاقدين وضعفاء الإيمان بالله، والجبناء الذين لايقوون على حوار ومواجهة إخوانهم وأصدقائهم، ويحبون تملك الأشياء بأي وجه كان، ويحبون السلطة، ومرضى بالأنانية ويحبون الانتقام، ولذلكم فإن موضوع خطبتنا لهذا اليوم هو الشعوذة، هذا الداء العضال وهذه الظاهرة السلبية التي انتشرت وشاعت في أرجاء مجتمعنا، بل في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وتؤكد بعض الدراسات أن 78في المائة من المغاربة يؤمنون بالسحر والشعوذة، وهو موضوع دقيق يمس شريحة كبيرة من شرائح المجتمع، فأخطر شيء في حياة المسلمين أن تتسلل الخرافات والأوهام إلى عقولهم، والانحرافات إلى سلوكهم، فهذه الطامة الكبرى، شبهات وخرافات ودجل وكذب وافتراء ووهم وجهل في عقولهم، وانحراف في سلوكهم، وسنطرق هذا الموضوع في خطب نبين من خلالها أهمية هذا الموضوع، وأوصاف الدجاجلة والمشعوذين، وتجليات فشو الشعوذة والسحر في مجتمعنا، وأعمال الدجاجلة ومرتكزاتهم وطرقهم في التعامل مع زبنائهم، وهل للسحر من تأثير؟ وفي من يؤثر وماهي طرق الاستشفاء الشرعية؟
أيها الإخوة الكرام، كثيرا مانقرأ أو نسمع عن أخبار المحترفين والمسترزقين في موضوع فك السحر وإخراج الجان، والدجاجلة والمشعوذين من الذكور والإناث، الذين يقترفون كل الكبائر، ولهم مظهر ديني، والناس للأسف الشديد يصدقون هذه المظاهر، يقول سيدنا عمر بن الخطاب رحمه الله ورضي عنه: ” لست بالخبّ، ولا الخبّ يخدعني”، لايوجد أروع من هذا الكلام، لست من الخبث حيث أخدع، ولا من السذاجة حيث أُخدع، هذا وصف المؤمن، لا يَخدع ولا يُخدع، ولا أظن شخصاً منكم يمكن أن يتعامل مع هؤلاء المشعوذين، لكنني أعتبر كل واحد منكم سفير هذا الدين العظيم إلى من حوله، لنا أقارب ثقافتهم ابتدائية، تفكيرهم محدود، وعندهم مشكلات، وعندهم فهم سقيم، ولم يطلبوا العلم من منابعه الصحيحة، ويتأثرون بما يقال بين الناس، فلا يوجد شخص إلا ويوجد فيمن حوله أشخاص يلجؤون لهؤلاء المشعوذين، والناس يدلون عليهم دون أن يشعروا، كثيرا مانسمع أحدهم يقول:” أنت مريض… والله ليس لك إلا فلان”، وبدل أن نستشفي من هذه الأمراض عن طريق الطب، وعن طريق الصدقة وعن طريق الرقية الشرعية لدى الصالحين من عباده، نسعى في طلب الحل عن طريق هؤلاء المشعوذين.
ومن تجليات هذه الظاهرة في واقعنا، على سبيل المثال لا الحصر، أنه عندما تحدث خلافات أسرية بين الزوج وزوجه، فبدل أن تعالج هذه القضايا الأسرية من خلال الشرع الحنيف والتوجيهات النبوية الراقية، تحل عن طريق مشعوذ دجال كذاب، من ذكائه يدل الزوجة على أن تكون نظيفة، هندامها حسن، تظهر بمظهر لائق أمام زوجها، بطاعته، بخدمته، بإكرامه،… فعلاً الأزواج بعد هذه التعليمات التي وجهها لهم هذا الدجال، تصبح هناك محبة بينهم، فتتوهم المرأة المسكينة أن المحبة ناتجة من السحر، لا ليس كذلك، بل من معاملتها، من أدبها مع زوجها، من طاعتها لزوجها، من حفظ نفسها فلو أن الزوجة عرفت ربها، واستقامت على أمره لأحبها زوجها، المشكلات تحل عن طريق التوبة النصوح، وعن طريق تطبيق منهج الله عز وجل وتعليمات السنة، وكم قرأنا وسمعنا أيضا عن فضائح اللائي يذهبن إلى المشعوذين من أجل طلب الشفاء من العقم، أو الزوجات أو الضرائر اللائي يطلبن كتابة حرز من أجل أن يحبها زوجها، أو ألا يتزوج عليها، أو التي تحب تطويع زوجها والسيطرة عليه، يقصدون هؤلاء المشعوذين وهم أكبر الزناة، فانتبهوا وكونوا عقلاء، فإما تخدير، وإما غرفة مظلمة وبخور وتمائم لاأصل لها، وكل ذلك كلام باطل، فلا تكونوا ضحية هذه الخرافات والضلالات، وابتزاز الأموال، وبالجملة فإن شريحة اجتماعية كبيرة تلجأ إلى هؤلاء المشعوذين حينما تعاني من مشكلة اجتماعية، أو مشكلة اقتصادية، أو مشكلة عاطفية، أو حينما تخاف من خطر داهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فياعباد الله، اعلموا رعاكم الله أن هؤلاء المشعوذين أذكياء جداً، وليسوا بالبلهاء، لهم مظهر يرضي ولباس يغري، يضعون عمامة خضراء، ويوهمون الناس بأنهم من الصالحين، وهم أكبر الدجاجلة، وأكبر النصابين، تمتمات في الفم، يستخدمون عبارات ذكية كقولهم حين يحدثونك:” سبحان الله! يا ولدي، بارك الله بكم” وكلام على هذه الشاكلة، كلام ديني، ووقار، وهو إنسان دجال، ونصاب من الطراز الأول، فينبغي أن تكونوا على علم، واجعلوا دائما كلام سيدنا عمر شعاراً لكم: ” لست بالخب، ولا الخب يخدعني”، وحتى يعطي هؤلاء لأنفسهم هالة كبيرة يدعون أنهم في حضرة الله عز وجل، ويروجون بين زبنائهم أن السورة الفلانية من القرآن تصلح للوفاق الزوجي، والسورة الفلانية تصلح لوجع الرأس، وسورة كذا تصلح لكذا، وما إلى ذلك، منحرفين عن الغاية والمقصد اللذين من أجلهما نزل القرآن، يستخدمون الجن في أعمال الشعوذة والاحتيال على الناس، ويدعون بأنهم يقضون أمور الناس بالقرآن، ولكنه افتراء، فهم يستخدمون الشيطان الذي يستخدمهم، ويجبرهم على أفعال منكرة وحرام، مثل تدنيس القرآن، ككتابة القرآن بدم الحيض أحياناً، وبالبول أحياناً أخرى، وبشيء قذر في مكان قرب عورة الإنسان، أو ترك الصلاة، أو عدم الصيام، أو الزنا بالأقارب، فحتى يسمح الشيطان لهذا الدجال أن يعينه على تحقيق إضلاله للناس، يأمره بهذه الأشياء التي تقشعر منها الأبدان، إن فعل هذا يقبله الشيطان، ويمده ليضل بني البشر، فكل المشعوذين لهم نصيب وافر في الفسق والفجور يمضي عليهم الشهر والشهران، وهم جنب، لايصلون، ولا يقومون بأي عبادة، يتاجرون بالدين، ويستغلون بساطة المسلمين وسذاجتهم، من أجل الاسترزاق والغنى الفاحش. وهذا كله وغيره ذكره أحد المشعوذين التائبين، في كتاب ألفه في الموضوع.
وعندما تطلع على الأشياء التي يمدها المشعوذون لزبنائهم السذج، تجد بأنهم يعطونهم أوراقا، كتب عليها كلام مطلسم غير مفهوم، ويأمرونهم بأن يأتوهم بديكٍ أبيض أو بلون آخر، أو حيوان آخر وتفاصيل أخرى، شيء مضحك، تفاصيل ما أنزل الله بها من سلطان، ويأخذون منهم مبالغ كبيرة جداً، يتحايلون على المريض حتى يدفع الأموال، ويطلبون من النساء إحضار شعر من مناطق معينة من جسم الرجل، أو أظفاره، أو التراب الذي يمشي عليه، والشيطان يقول لهم: أنا عندي شرط معين، وهو أن تكتب الكلام المقدس بشيء من النجاسة التي تخلط مع أي شيء آخر، وتلف في ورقة، ويطلب من الزوجة دفنها في المقابر، أو في أماكن معينة، أو باستعمال حيوانات معينة وإطعامها لأزواجهم وكثيرا ما يستغلون من يأتيهم من أجل حفظ النفس من العين، والخطير جدا أن الأوراق والأشياء التي يمدونهم بها ليست لها علاقة بالقرآن، ولا بالسنة النبوية، ولا إلى شيء آخر، إنما هي كذب، ودجل، وقد تتسبب في أمراض خطيرة مزمنة ومشاكل صحية لمن يتناولها.
أيها الإخوة الكرام، اعلموا أن ما من معصية ترونها على وجه الأرض إلا وبسبب معصية ارتكبت، وما من معصية ارتكبت إلا بسبب الجهل، والجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه مالا يستطيع عدوه أن يفعله به، فهذا واقع شريحة كبيرة من المسلمين لم تتنور بنور العلم، ولهذه الخطبة تتمة سنأتي عليها في خطبة لاحقة بحول الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.