الشتاء ربيع المؤمن(4): التضامن

الشتاء ربيع المؤمن(4): التضامن

   الأستاذ مولاي يوسف المختار بصير

الحمد لله، الحمدلله الذي جعل لعباده المؤمنين مواسم يتقربون إليه فيها بأنواع الطاعات، ويتطهرون بها من أدران السيئات، وسن لهم أياما يجعلونها مطية للإكثار من القربات، ويشكرونه خلالها على ما أنعم به عليهم من صنوف المكرمات، نحمده تعالى ونشكره على نعم لا تزال تتوالى على ممر الأوقات، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو دعانا للتعرف عليه، والتفكر في آلائه آناء الليل وأطراف النهار، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وما له من الأسماء والصفات، القائل: “إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّليْلِ وَٱلنَّهَارِ لاَيَـٰتٍ لاِوْلِى ٱلاْلْبَـٰبِ، ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ألله قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوٰتِ وَٱلأرْضِ، رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطلا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار”، ِونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أول مسارع لفعل الخيرات، دلنا بسنته العملية على أفضل الأعمال التي تقربنا إلى رضوان الله ونجازى عنها بأعلى الجنات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا سباقين إلى اغتنام الفرص للإكثار من فعل الخيرات وترك المنكرات والتقرب إلى بارئ الأرض والسماوات، وسلم تسليما كثيرا ما غشيت العباد الرحمات.

أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون، في الجمع الماضية تكلمنا عن فضل فصل الشتاء، باعتباره كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: “الشتاء ربيع المؤمن”، وتناولنا الكلام عن أنواع الطاعات التي بإمكان جميع الناس القيام بها في سائر الأيام والأوقات وخاصة في فصل الشتاء، تقربا لله، كالقيام والصيام، وعونا لعباد الله كالإنفاق والإطعام قياما بحقوق العباد، واليوم بحول الله تعالى نواصل في نفس المنهج الحديث عن نوع آخر من القربات، والتي يتوجه بها العبد نفعا لإخوانه في هذا الفصل البارد، والذي نسأل الله تعالى أن يجود علينا فيه من بركات السماء فينزل فيه الغيث على النبات والبهائم وسائر البلاد،  فيا أيها الإخوة المؤمنون، إن المجتمع الإسلامي القوي، مجتمع يقوم على الأخوة والمحبة والمساواة، مجتمع أساسه التضامن والتضحية، والمسارعة إلى إسداء الخير وجلب النفع للعباد، روى البخاري ومسلم عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة”، وإن من علامات الأخوة الصادقة أن تحب النفع لأخيك كما تحبه لنفسك، وأن تفرح بوصول الخير إليه كما تفرح بوصوله إليك، فإذا اجتهد المسلم في تحقيق هذه الغاية فقد تقرب إلى الله عز وجل بأزكى الطاعات وأعظم القربات، أيها الإخوة المؤمنون، الكثير منا والحمد لله ينعم في هذا الفصل بالرخاء ورغد العيش، وقد توفر لديه العديد مما يدفع به أذى البرد وشدته، فالملابس الدافئة والثقيلة متوفرة تمتلئ بها بيوتهم، وأجهزة التدفئة ميسرة موجودة، مما يجعل بعضنا يمر به موسم الشتاء بلا كدر أو مرض، يبيت دافئاً مطمئناً على أهل بيته وعياله، وقد شبعوا من نعمة الله، وهذه نعمة جليلة ومنحة جسيمة لا يشعر بها إلا من ذاق لسع البرد وسهر الليالي من شدة الصقيع والجوع، وبالتالي فإن تذكر هذه النعم واستشعارها يوجب شكر المنعم جل وعلا  القائل: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ”، وإن من شكر هذه النعمة والقيام بحقها، أن ينظر المرء حال من حرمها، ومن يعاني من قلة ما يجد من لباس يستر به نفسه ويتقي به قساوة فصل الشتاء، وليس الشكر باللسان فقط، بل ينبغي أن يكون شكرا عمليا، يتمثل في التضامن وإشراك عيال الله بالزائد عن حاجته الضرورية من الملابس، ومن حق الأخوة الإسلامية والرابطة الإيمانية كذلك، أن يشعر المسلم في أي مكان كان بأن إخوانه المسلمين ظهير له في السراء والضراء، وأن قوته لا تتحرك وحدها، بل إن قوى المؤمنين جميعا تساندها وتشد أزرها، وتضحي من أجل أن يعيش في أمة الإسلام عزيزا مكرما، قال صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا”، وإن بذل أنواع المعروف في فصل الشتاء، والسعي إلى كسوة المحتاجين بفضل ما يجده المسلم من لباس أو غطاء ربما تمر السنة والسنتان من غير استعماله، هذا العمل يعتبر أيضا من القربات التي حث عليها الإسلام، فأخوة الدين تفرض التعاون والتناصر بين المسلمين في أقطار المعمور، سعيا في تنفيس كربة المكروب ولم شعث المتألم المحروم.

أيها الإخوة المؤمنون، أخرج الإمام مسلم، عن سيدنا جرير بن عبد الله (ض) قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عُراة مُجتابيالنِّمار أو العَباء متقلدي السيوف، عامتهم من مُضر، بل كلهم من مضرَ، فتمعَّر وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لِما رأى بهم من الفاقةِ، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذَّن وأقام، ثم صلى، ثم خطب فقال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا”، والآية الأخرى التي في آخر الحشر: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ”، تصدَّقَ رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشِق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادت كَفُّه تَعجِز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابَعَ الناسُ حتى رأيت كَوْمَينِ من طعامٍ وثياب، حتى رأيتُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلَّل كأنه مُذْهَبَة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر مَن عمِل بها بعده، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمِل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء”. جعلني الله وإياكم من المتعظين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون،أخرج الشيحان عن سيدنا أبي سعيد الخدري (ض) قال: “بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له قال: فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له”، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، أحياؤنا وأزقتنا في مدينتنا هذه مليئة بالمحتاجين إلى التفاتتنا جميعا للتخفيف عنهم ما يجدونه من قسوة البرد هذه الأيام، ودور الأيتام والعجزة والمتخلى عنهم تنادينا جميعا للتضامن معهم، ودور الطلبة والطالبات ومدارس التعليم العتيق التي تأوي المتجردين للتعلم والعلم، والمستشفيات الغاصة بالمرضى الآفاقيين الذي أحوجتهم الظروف لأن يكونوا نزلاء المستشفيات في هذا الفصل، والغرباء الأجانب الذين غادروا أوطانهم كرها، وساقتهم الأقدار ليعيشوا بيننا، وبعض عائلاتنا الذين فيهم من انزوى في بيته منعه الحياء وقلة ذات اليد من استجداء الكسوة والغطاء من الميسورين من أهاليهم، كل هؤلاء ينبغي أن نلتفت إليهم إلتفاتة تضامن وتقاسم لما هو موجود في بيوتنا، إرضاء لرب العالمين وتقربا إليه بهذا العمل الصالح، تأسيا برسولنا الرؤوف الرحيم، وبملكنا المشجع على هذه الأعمال لصالح رعاياه في هذا البلد الأمين، فالإسلام ليس صلاة وصياما وحجا وقياما فحسب، بل هو بذل وعطاء، وعون لعباد الله. الدعاء

خطبة الجمعة من مسجد الحسنى عين الشق، الشتاء ربيع المؤمن (4) التضامن، الجمعة 5 جمادى الثانية 1441 موافق31 يناير 2020   الأستاذ يوسف المختار بصير

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *