الشتاء ربيع المؤمن (1)
الشتاء ربيع المؤمن (1)
الأستاذ يوسف المختار بصير
الحمد لله، الحمدلله الذي جعل لعباده المؤمنين مواسم يتقربون إليه فيها بأنواع الطاعات، ويتطهرون بالعمل الصالح فيها من أدران السيئات، وسن لهم أياما يجعلونها مطية للإكثار من أنواع القربات، ويشكرونه خلالها على ما أنعم به عليهم من صنوف المكرمات، نحمده تعالى ونشكره على نعم لا تزال تتوالى على ممر الأوقات، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو خالق الأرض والسماوات، سبحانه لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وما له من الأسماء والصفات، القائل: “إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لاَيَـٰتٍ لاِوْلِى ٱلاْلْبَـٰبِ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أول مسارع لفعل الخيرات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا سباقين إلى اغتنام الفرص للإكثار من فعل الخيرات وترك المنكرات والتقرب إلى بارئ الأرض والسماوات، وسلم تسليما كثيرا ما غشيت العباد الرحمات، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، إن تقلّب الزمان وتصرفَ الأحوال من حر إلى قَر، ومن صيف إلى شتاء، إنما هو بحكمة الله وتصريفه، فهو سبحانه أعلم بما يُصلِح عباده، وها نحن الآن ننعم بفصل الشتاء الذي غمرتنا بوادره وتنزَّل برده، طال ليله وقصر نهاره، ولنا معاشر المؤمنين مع الشتاء أحوال وأحكام، حيث نتفاعل مع التغيرات الكونية والأحوال المناخية وفق ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيتحقّق إيماننا وتتوثق صلتنا بربنا سبحانه وتعالى، فإن تقلب الأحوال الكونية من صيف وشتاء وليل ونهار، وجفاف وأمطار، وسكون ورياح،من شأنه أن يعزِّز إيمان المؤمن بأن الله تعالى خالق الكون ومدبره، القائل: “وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِير”، أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري (ض) عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال: “الشتاء ربيع المؤمن”، وزاد الإمام البيهقي وغيره: “طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه”، وعن ابن مسعود (ض) قال: “مرحبا بالشتاء، تتنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام”، ومن كلام يحيى بن معاذ (ض) قوله: “الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنّسه بآثامك”. أيها الإخوة، المؤمنون والمؤمنات، إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأن المؤمن يستغل فرصته، ليرتع خلال أيامه ولياليه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة، فإذا ما هطلت الأمطار أقر بفضل الله ونعمته، ومن هذه القربات:تحري الدعاء حين نزول المطر، فهو من الأوقات الفاضلة، فعن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ثنتان ما تردان: الدعاء عن النداء وتحت المطر”، والدعاء عند هبوب الرياح لقوله صلى الله عليه وسلم: “الريح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها”، كما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء عند سماع الرعد بقوله: “سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته”. أيها المؤمنون، اعلموا حفظكم الله أن للشتاء أحكامًا شرعية وآدابًا نبوية، ينبغي للمؤمن أن يتحراها لتكتمل عبادته، ويتم له أجره وثوابه، ويقتدي بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويخرج بالإقتداء بها من حال عامة الناس إلى حال العٌباد من المخلَصين، المقتدين برسول اللهصلى الله عليه وسلم، منها:إسباغ الوضوء وإتمامه، فلا يعجله الشعور بالبرد عن إكمال الوضوء لأعضائه وإتمامها، بل إن ذلك الإتمام والإسباغ وقت المكاره هو مما يكفر الله به الخطايا، فعن سيدنا أبي هريرة (ض) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟” قالوا: بلى يا رسول الله، قال: “إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط”، والمكاره تكون بشدة البرد أو الحر أو الألم، فيحتسب المسلم تلك الشدة وهو يتوضأ بأنها من مكفرات الخطايا ورافعات الدرجات. أيها المؤمنون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس بالشتاء ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير، وهو شدة البرد”. فإذا ما وجد المرء لسعة البرد تذكر زمهرير جهنم، فاستعاذ منها، وسأل الله تعالى برد الجنة ونعيمها بأعمال يجعلها مطية للفوز والقرب من رضا رب العالمين، قال الله تعالى واصفا حال عباده في الجنة ” وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَـٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ وَلَقَّـٰهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا”. فاللهم اهدنا الصراط المستقيم، واحشرنا في زمرة النبيئين والصديقين، ووفقنا لطاعتك في كل وقت وحين، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون، من مواطن العبرة والذكرى للمؤمن حين يرى الأرض وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، حيث أحياها ربنا جل وعلا بالمطر بعد موتها، فليعلم حينها أن القرآن وذكر الله تعالى يحيي القلوب بعد موتها وغفلتها، وهذا ما أشار إليه القرآن حين ذكر استبطاء الله تعالى لخشوع قلوب المؤمنين فقال عز وجل: “أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”، فالله تعالى يحيي القلوب بالقرآن كما يحيي الأرض بالمطر، فمن وجد غفلة في نفسه وقسوة في قلبه فليقبل على كتاب الله تعالى تلاوة وتدبّرا، فإنما هو هدى ورحمة للمؤمنين وموعظة وشفاء للمتقين، ولنا إن شاء الله تعالى عودة إلى الموضوع في الجمعة المقبلة. الدعاء.