الحوار منهج الإسلام في حل الخلافات، تعريفه، أهميته، أنواعه، وطرق إدارته بفعالية
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم رب لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره. أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:”ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين”، ويقول أيضا عز وجل:”وجادلهم بالتي هي أحسن”، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن جابر رضي الله عنه:” إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون” قالوا يارسول الله: قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيقهون؟ قال:” المتكبرون”، والثرثار هو الكثير الكلام تكلفا، والمتشدق المتطاول على الناس بكلامه، يتكلم بملئ فيه تفاخرا وتعاظما بكلامه، والمتفيهق أصله من الفهق وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه ويغرب به تكبرا وارتفاعا وإظهارا للفضيلة على غيره. أيها الإخوة الكرام، ، إن الخلاف والاختلاف يعد سنة كونية لله في خلقه، فالناس مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومدركاتهم ومعارفهم وعقولهم وأفكارهم، وكل ذلك آية من آيات الله في خلقه، وهذا الاختلاف الظاهري سبب مباشر لاختلافهم في الآراء والاتجاهات والأعراض والأفكار، يقول تعالى:” ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم” أي لثمرة الاختلاف خلقهم، وتمرته أن يكونوا في آخر الأمر أي يوم القيامة فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير. أيها الإخوة الكرام، إن المتمعن بعين فكره في مختلف العلاقات القائمة بين الناس في المجتمع، ابتداء من الزوج وزوجته، وأهل العشيرة الواحدة، والجيران فيما بينهم، ليجد أن الخلافات والنزاعات والخصومات قائمة بينهم لا تهدأ، وأسبابها متعددة، وإذا علمنا أن هذا الخلاف والاختلاف أمر طبيعي حصوله في العلاقات بين الناس ومثله سوء التفاهم الذي يحصل بين الكثير من الناس، فكيف السبيل إذن إلى تجاوز هذه الخلافات؟ وما هو منهج الإسلام في حلها؟ المنهج أيها الإخوة والأخوات الذي جعله الإسلام سبيلا إلى حل مختلف النزاعات هو الحوار، ينبغي إذن أن نعود أنفسنا على الحوار ونجعله ديدننا في مختلف النزاعات الحاصلة، فقد كان ومازال دعامة من الدعائم الأساسية لتحقيق التواصل والتفاهم بين الناس، وهو وسيلة ناجعة لإظهار الحق والدفاع عنه، وهكذا نجد بأن الشريعة الإسلامية أصلت لهذا الحوار البناء كأساس لحل مختلف الخلافات والنزاعات والمخاصمات، تأصيلا منهجيا وعلميا ينبني على ضوابط وآداب وسلوكيات محددة، فصار المسلمون مطالبين بمعرفتها والتحلي بها والتزام العمل بها واعتمادها في حل أي خلاف قد يحصل، فالدين الإسلامي دين حوار يكفل الحياة الهنية السعيدة بدون خلافات لكل الناس مع بعضهم البعض، وهو دين ينبذ التعصب والخصومة والانغلاق، فكم من البيوت هدمت تلكم الأواصر التي بنيت عليها في اليوم الأول بسبب عدم وجود الحوار بين أفرادها، وكم من والد فقد أولاده وفقد محبته التي تجمعه بهم، بسبب عدم وجود الحوار، وكم من صديق فقد أحبته بسبب عدم وجود الحوار؟، والنفوس المريضة هي التي لاتقبل الحوار كحل للأزمات والنزاعات، وتتعمد إلحاق الضرر بالغير ظلما وعدوانا، وفي ذلك دليل على الخلق السيئ لصاحبه. أيها الإخوة الكرام، إن كلمة حوار تعني المراجعة في الكلام، وهو غير الجدال الذي يعني الخصام بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب، وغالبية الناس تجعلهما بمعنى واحد، ويريدون بهما ما يقع من مناقشة بين طرفين أو أطراف يقصد بها تصحيح كلام وإظهار حجة وإحقاق حق وإثباته أو دفع شبهة، ورد الفاسد من القول والرأي، وللحوار أهمية كبيرة، فهو وسيلة للتفاهم بين البشر والتعاون بين المتحاورين على معرفة الحقيقة والتوصل إليها، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والإدلاء بأدلة من أجل الوصول إلى الحق، فالحوار البناء جد هام، لأن به يتوصل إلى إيجاد حل وسط يرضي الأطراف، وبه يتعرف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمكن ولو في حوارات تالية. أيها الإخوة الكرام، في حال حصول نزاع أو خلاف ما وتم التوافق على جلسة حوار، يقرر علماء المناظرة والاجتماع والنفس، على أن الحديث في هذه الجلسات، ينبغي أن يبدأ بموطن الاتفاق بين الطرفين المتنازعين، لأن ذلك طريق إلى كسب الثقة وفشو روح التفاهم، ويصير بذلك الحوار هادئا وهادفا، ويفتح آفاقا للتلاقي والقبول والإقبال مما يقلل الجفوة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب، والحال ينعكس لو افتتح المتحاورون بنقاط الخلاف وموارد النزاع، فذلك يجعل ميدان الحوار ضيقا وأمره قصيرا، ومن تم يقود إلى تغير القلوب وتشويش الخواطر، ويحمل كل طرف على التحفز في الرد على صاحبه، متتبعا لثغراته وزلاته، ومن ثم يتنافسون في الغلبة أكثر مما يتنافسون في تحقيق الهدف. والحوار نوعان: هناك حوار هادئ عقلاني متفتح، وحوار متشنج يعتمد على الصراخ، متزمت قائم على المهاترة والرغبة في الوصول إلى فائدة وحل، وللحوار عوائق كثيرة منها: الخوف، الخجل، المجاملة، الثرثرة، الإطناب، اللف والدوران، التقعر، استخدام المصطلحات غير المفهومة، رفع الصوت من غير موجب، التعصب، حب الظهور من خلال التدخل، عدم الرغبة في إظهار الحق والوصول إلى نتيجة. يقول الإمام الشافعي رحمه الله:” ما حاورت أحدا إلا وتمنيت أن يكون الحق إلى جانبه”. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. الخطبة الثانية: الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله و صحبه ومن ولاه. أما بعد، فيا عباد الله، يقول الله تعالى:”وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن”، ويقول أيضا عز وجل: “وقولوا للناس حسنا”. وأختم أيها الإخوة الكرام ببيان سبب نزول سورة المجادلة، لأنه دار فيها حوار بين المرأة وزوجها، ودار فيها حوار بين المرأة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد فيها رد على الحوار من قبل الله سبحانه وتعالى الذي لاتخفى عليه خافية، يقول تعالى: “قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير”، روى الكثير من الحفاظ عن عبد الله بن سلام رحمه الله، قال: حدثتني خويلة بنت ثعلبة رضي الله عنها، وكانت عند أوس بن الصامت رضي الله عنه، قالت: دخل علي ذات يوم وكلمني بشيء وهو فيه كالضجر فراددته، فغضب، فقال: “أنت علي كظهر أمي”، ثم خرج في نادي قومه، ثم رجع إلي فراودني عن نفسي فامتنعت منه، فشادني فشاددته، فغلبته بما تغلب به المرأة الرجل الضعيف، فقلت: كلا والذي نفس خويلة بيده، لا تصل إلي حتى يحكم الله في وفيك بحكمه، ثم أتيت النبي أشكو ما لقيت؟ فقال:” زوجك وابن عمك اتقي الله وأحسني صحبته”، فما برحت حتى نزل القرآن: “قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها”، حتى انتهى إلى الكفارة، فقال:” مريه فيعتق رقبة”، قلت: يا نبي الله والله ما عنده رقبة يعتقها، قال: “مريه فيصم شهرين متتابعين”، قلت: يا نبي الله، شيخ كبير ما به من صيام، قال: “فيطعم ستين مسكينا”، قلت: يا نبي الله والله ما عنده ما يطعم، قال: “بل سنعينه بعرق من تمر”، مكتل يزن ثلاثين صاعا، قالت: قلت: وأنا أعينه بعرق آخر قال: “قد أحسنت فليتصدق”، لهذا الموضوع تتمة، سنأتي عليها في خطبة لاحقة، والحمد لله رب العالمين.