الحقوق المشتركة بين المسلمين: رعاية الجار(2)
الحقوق المشتركة بين المسلمين: رعاية الجار(2)
مولاي يوسف المختار بصير
الحمد لله، الحمد لله الذي أمرنا بالبر والصلة، ونهانا عن العقوق وجعل حق المسلم على المسلم من آكد الحقوق، وجعل للجار حقا على جاره وإن كان من أهل الكفر والفسوق، نحمده تعالى ونستغفره وبه نثوق، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو الخالق وكل شيء سواه مخلوق، القائل في كتابه المحفوظ والمقروء: “واعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الصادق المصدوق، بين من خلال سنته القولية والفعلية ما للجار على جاره من الحقوق، حتى بلغ به الأمر إلى القول: “مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه المؤدين للحقوق، وعلى التابعين لهم بإحسان من سابق ومسبوق، وسلم تسليما كثيرا أبدا، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، في الجمعة الماضية بدأنا الحديث بإجمال عن أحد الحقوق المشتركة بين المسلمين وحتى بين المسلم وغيره من الآدميين، ألا وهو حق الجوار، واليوم نواصل لنؤكد من خلال توجيهات نبينا صلى الله عليه وسلم على بعض الحقوق التي ينبغي رعايتها للجار، فنقول وبالله التوفيق، أيها الإخوة المؤمنون، كلمة الجار تطلق على كل من جاورك سواء كان جواره لك في مسكن أو دكان أو عمل أو غيرها، والجيران ثلاثة:جار مسلم قريب، فهذا له ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار، وجار مسلم ليس بذي قرابة، فهذا له حقان: حق الإسلام، وحق الجوار، والثالث جار كافر، أبقَت له الشريعة حقَّ الجوار، وهذا من مكارم ديننا الإسلامي، ورعاية حق الجار من الأخلاق التي حث عليها الإسلام، ومن الفضائل التي لم تكن في مجتمع الجاهلية، الذين اشتهروا بسوء الجوار، روى الإمام أحمد. أن سيدنا جعفر بن أبي طالب (ض) لما سأله ملك الحبشةالنجاشيعن هذا الدين الجديد، قال له: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّة، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَام ـ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلام ـ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا. ومن صور رعاية الجار والقيام بحقوقه، إضافة إلى ما سبق أن ذكرناه في الجمعة الماضية، حق بذل المعروف إلى الجار الكافر، لأن الهدية والإكرام من الأمور التي تؤلف بين القلوب، وتزيل الأحقادتقرب النفوس وتبرهن على صدق المودة وعظيم المحبة، روى الإمام البخاريعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلمفَقَالَ: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ”، أخرج الإمام مسلمعن أبيذَرٍّ الغفاري (ض) أنه كان يقول: إِنَّ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلمأَوْصَانِي: “إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ” فكان فيما بعد إذا طبخ لحما أكثر ماءه وأهدى إلى جيرانه، وأخرج الترمذي أن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ذُبحت له شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ”. أيها الإخوة المؤمنون، لقد ضرب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلمأروع الأمثلة في التعاون والمساعدة فيما بينهم وبين جيرانهم، حتى استحقوا ثناء النبي صلى الله عليه وسلمعليهم، حيث قَالَ عليه الصلاة والسلام في الأشعريين: “إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ”.كان أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم يتسابقون ويتنافسون في التعاون والتراحم فيما بينهم وبين أقربائهم وجيرانهم طمعاً في رحمة الله تعالى وعونه وتأكيداً لجوهر الإنسانية فيهم، فهذا عمر بن الخطاب (ض) صرَّ أربعمائة دينار، وقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تربص عنده في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع فذهب بها الغلام إليه. وقال له: يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اجعل هذه في بعض حوائجك. فقال له: وصله الله ورحمه ثم دعا بجارية وقال لها: اذهبي بهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه السبعة إلى فلان، حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر وأخبره فوجده قد أعد مثلها إلى معاذ بن جبل (ض) وقال له: انطلق بها إلى معاذ بن جبل وانظر ما يكون من أمره فذهب إليه، وقال له كما قال لأبي عبيدة ففعل معاذ مثل ما فعل أبو عبيدة، فرجع الغلام وأخبر عمر فقال: إنهم أخوة بعضهم من بعض، هكذا فهم الصحابة رضوان الله عليهم حق الجوار، فأدوه حق الأداء، وهم يعلمون أن برعاية حقوق الجيران تكتسب المودة والمحبة، وتستجلب المغفرة والرحمة، روى الإمام أحمدعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ض) عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أنه قَالَ: “مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَشْهَدُ لَهُ ثَلاثَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ إِلاّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ”. جعلني الله وإياكم من الموفين المؤدين لحقوق جيرانهم، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. أمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، شيد رجل من المسلمين دارًا حسناء، جمَّلها وأحسنها وأبهاها، ثم تعكرت حياته فباعها بأرخص الأثمان وأبخس الأسعار، نسي جِدَّتها وعافَ حُسنها وكرِه سكناها وتمنى كل خلاص منها، وليس ذلك بسبب افتقاره وحاجته، ولكنه أبغض الدار لجور جاره وأذاه، حتى ضاق وسعها وتكدر حلوها وتنغص صفاؤها وتغيرت أشكالها. فزهد الجار الصالح في الدار والمال، لأنه لم يهدأ له بال، ولم يقرَّ له قرار، فباع داره فلامه الناس والعذال فأجابهم بقوله: يلوموننِي أن بعتُ بالرخص منزلِي ** ومـا علموا جارًا هناك ينغِّـصُ ** فقلت لَهم: كفـوا الْملامَ فإنهـا ** بجيـرانها تغلو الديار وترخـصُ، وقد ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله في تاريخه قصةأن محمد بن الجهم عرض داره للبيع بخمسين ألف درهم، فلما حضر الراغبون في شراء الدار قال لهم: قد اتفقنا على ثمن الدار، فبكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ فقيل له: والجوار يباع؟! قال: وكيف لا يباع جوار من إذا سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتدأك، وإن أسأت إليه أحسن إليك؟فبلغ سعيد بن العاص فوجه بمائة ألف درهم وقال له: أمسك دارك عليك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. هذه إخوتي صور تطبيقية من تاريخ المسلمين في رعايتهم لحقوق جيرانهم، فهل تنهض همتنا للحذو حذوهم، واقتفاء أثرهم، والتشبه بهم في الموافق مع الجيران تأسيا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ألا فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ** إن التشبه بالكرام رباح. الدعاء
خطبة الجمعة من مسجد الحسنى عين الشق، الجمعة 18 جمادى الأولى 1440 موافق 25 يناير 2019