الحقوق المشتركة بين المسلمين: حق الجوار (1)

الحقوق المشتركة بين المسلمين: حق الجوار (1)

الأستاذ مولاي يوسف بصير

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، الحمد لله الذي أمرنا بالبر والصلة، ونهانا عن العقوق وجعل حق المسلم على المسلم من آكد الحقوق، وجعل للجار حقا على جاره وإن كان من أهل الكفر والفسوق، نحمده تعالى ونستغفره وبه نثوق، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو الخالق وكل شيء سواه مخلوق، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الصادق المصدوق، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه المؤدين للحقوق، وعلى التابعين لهم بإحسان من سابق ومسبوق، وسلم تسليما كثيرا أبدا، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، إن سلامة المجتمعات في الدنيا كلها، لا تتحقق إلا بالإعداد الصحيح لأفرادها، ولا ينتشر الحب والإخاء والتعاون والتضحية بين طبقاتها إلا بأداء الحقوق واحترام الواجبات المنوطة بالإنسان فيها، والإسلام كغيره من الأديان جعل حق الجار ورعايته من أعظم المهمات، وأسمى الغايات، وأسبق الأسبقيات في جميع الحالات، لأن الجار يستطيع أن يحقق لجاره من ظروف السعادة والهناء ما لا يقل عما يحققه الزوج لزوجه، والأب لإبنه، والأخ لأخيه، فالإسلام أيها المسلمون، يرعى بقوانينه الإلهية كل العلاقات التي تجمع بين أفراد المجتمع، سواء أكانت العلاقة علاقة العقيدة، أم علاقة النسب، أم علاقة المصاهرة، أم علاقة الجوار، أم علاقة الصحبة، أم مجرد علاقة إنسانية، كل علاقة يراعيها بما يناسبها، فلا يدع العواطف الجامحة تطغى على حقوق الله، ولا حقوق الله تمنع من الإحسان لعباد الله، حتى ولو كان هذا الإنسان ممن يخالفك في العقيدة ما دام مسالما لك ولدين الإسلام، كما جاء بيانه في خطبة الجمعة الماضية حول منهج الإسلام، وشرط ذلك مذكور في قوله تعالى: “لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ“،  عباد الله، إن حقوق الجار كثيرة وكبيرة، مؤكدة بالكتاب مفصلة بالسنة، لأن علاقة الجوار والاحتكاك اليومي بالجار، والتعاون في السراء والضراء معه، كل ذلك يقتضي أن تكون هذه الحقوق مؤكدة مرعية، مصونة محضية، وإلا تباعدت وحدات المجتمع واختلفت لبناته التي أعدت لبناء كيان إسلامي يشد بعضه بعضا، وترتبط وحداته بروابط المحبة والعدل والأخوة والإحسان، ولو كان بعض هذه الوحدات أحيانا يختلف مع غيره في الأديان، وإن أعظم وصية تؤسس عليها قواعد هذه الحقوق لهي قول الله تعالى: “واعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا“، فهذه الآية تؤكد حق الجار كما تؤكد حقوقا أخرى لغيره، وتفرضه على كل مسلم ومسلمة، لكل جار ولو جار، لأن جاذبية العفو والصفح على من أساء إليك، تُصيِر  العداوة صداقة بين الجيران، ورباطا قويا بين الإخوان، كما أن جاذبية الإحسان تحافظ على استمرار الصداقة والمحبة والعرفان، وصدق الله العظيم إذ يقول: “ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ“، وقد فصلت السنة النبوية هذه الوصية وبينت جوانب كثيرة من الصلات بين الجيران لدرجة أن الإيمان نفسه جعله الإسلام ينتفي عن كل شخص يؤدي جاره فقال صلى الله عليه وسلم في تعظيم حق الجار: “مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”، وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “أتدرون ما حق الجار؟ إذا استعان بك أعنته، وإن استنصرك نصرته، و إن استقرضك أقرضته، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطل عليه البناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقُتار ريح قِدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فاهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده”، وقال صلى الله عليه وسلم في تعظيم الإحسان إلى الجار، خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره، وقال صلى الله عليه وسلم: “يا أباذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك” (أي اعطهم منها)، وقوله لأمنا عائشة (ض) لما قالت له: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال صلى الله عليه وسلم: “لأقربهما منك بابا”، وقال صلى الله عليه وسلم منبها الجارات لبعضهن: “ألا لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة”، وقال صلى الله عليه وسلم في تغليظ إثم من يؤدي الجار: ” والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه”، وقال صلى الله عليه وسلم: ” ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم”، ومن مظاهر حقوق الجار على جاره وتعظيم مكانته اعتبار الزنى بزوجة الجار مساويا في الإثم للزنى بعشر نسوة بعيدات عن الدار، ومن مظاهر الجوار اعتبار الجار يستحق حق الشفعة في العقار. جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، ذكر الخطيب البغدادي (ح) في تاريخه قصة وقعت لأبي حنيفة (ح) مع جار له، قال: كان لأبي حنيفة بالكوفة إسكافي (صانع احذية) يعمل نهاره حتى إذا جنّ الليل رجع إلى منزله، وقد حمل لحمًا فطبخه، أو سمكة فيشويها، ثم لا يزال يشرب حتى إذا دبَّ الشراب فيه غنَّى بصوت وهو يقول:

أضاعوني وأيَّ فتىّ أضاعوا *  ليوم كريهةٍ وسِدِاد ثغرِ

فلا يزال يشرب ويردِّد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يصلي بالليل ويسمع جَلَبته، ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه، فقيل: أخذه العسَسَ منذ ليال وهو محبوس، فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غدٍ وركب بغلته واستأذن على الأمير، قال الأمير: ائذنوا له وأقبلوا به راكبًا ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل، فلم يزل الأمير يوسّع له من مجلسه، وقال: ما حاجتك؟ قال: لي جار أخذه العسَس منذ ليال، يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم، وكل من أُخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة والإسكافي يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه وقال: يا فتى أضعناك؟ قال: لا، بل حفظتَ ورَعيتَ جزاك الله خيرًا عن حرمة الجوار ورعاية الحقّ، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان. أيها الإخوة المؤمنون، إذا كان القرآن الكريم الذي سمعتم، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تليت عليكم، تحثنا على رعاية الجار فأيننا نحن منها في وقتنا الحاضر؟ في زمان تنكرنا فيه لجيراننا، لا نعبأ بأحوالهم، ولا نسعى لسد حاجاتهم، لا نحن من المساندين ولا من المواسين، بل منا من يدبر المكائد ويسعى بين الجيران بالمفاسد، لايراعي لهم حرمة، ولا يتقرب إلى جائعهم بلقمة، ماذا نقول وما اعتذارنا يوم الوقوف بين بيدي الله، فتجد خصمك أمامه جارك الذي أسأت جواره، ألا فلنتق الله تعالى في جيراننا، ونصلح ما بيننا وبينهم تأسيا برسولنا، الذي يقول: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ”.  ولنا عودة إلى هذا الموضوع في خطب لاحقة بحول الله. الدعاء

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *