الحرية والفوضى الهدامة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اسمحوا لي أولا أن أشكر الله تبارك وتعالى ثم عامل هذا الإقليم،
وشيخ الزاوية البصيرية وإخوانه على ما وفقهم الله في تنظيم هذا اللقاء الذي جمع سادة من دول شتى، ليكونوا يدا واحدة من أجل حقوق الإنسان، وإن مداخلتي اليوم، ستتناول أمرا دقيقا أفرق فيه بين معنى الحرية الضرورية للشخص الذي يعمر هذه الأرض بتكليف من الله، وبين الفوضى التي تبنى على الاستهتار ومصادرة حقوق الآخرين بحيث لا يرى الإنسان إلا نفسه، ناسيا من سواه من بين جنسه.
فمنذ أن خلق الله الإنسان وشرفه بخلافته ونفخ فيه من روحه ومنحه الحرية لينمو في هذا الوجود، ليكون منضويا في عالم الإنسان المكتمل الخلق والخُلق، ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾، ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾.
ولن يتم للإنسان هذا النمو إلا عن طريق الحرية والنشاط، فهو بحاجة إلى حرية شخصية يصون بها قدراته اللازمة فلا غرابة إذا وجدنا طفلا يعشق الحرية بالطبع، فلو وضع في قاعة مملوءة بما يهواه وترك يلهو، ثم شعر بأن باب القاعة قد أغلق عليه، لعاف كلما حوله واتجه إلى الباب يرنو الخروج من هذا السجن، وترك شهوته وهواه وراء ظهره.
ومن اللحظة الأولى التي خلق الله فيها الإنسان على هذه الأرض، وبدأ التناسل ولد من يصادر حرية الآخر، ولو كان لا دخل له بذلك، فقام الإنسان الأول، كما ذكر الله سبحانه وتعالى، بقتل أخيه ملوثا الأرض بدمه، معترضا على قبول الله له، ﴿فأصبح من الخاسرين﴾.
وخاضت الشعوب حروبها من أجل الحرية، ودفعت تلكم الشعوب راضية، أكرم شهدائها وأنفَس أموالها وأجمل مدنها من أجل الحرية، رغبة في حياة كريمة تمنح للإنسان فردا كريما وجماعة محترمة، وطنا يسكنه ومواطنة يمارسها، وعقيدة يعتنقها.
وما المعارك التي خاضها سيدنا محمد ﷺ، إلا من أجل أن تصل الحرية إلى الناس، حرية العقيدة التي أبى الوثنيون أن يصل المسلمون إليها، ومن أجل حرية الشعب في عقله وخلقه ومعيشته، واستمرت المعارك من أجل استخلاص حرية الشعوب على يد الفاتحين المسلمين حتى وصلت إلى زماننا في العصر الحديث.
وما معارك الحرية التي يخوضها الشعب المسلم اليوم في كل أرض، إلا من أجل ذلك، وإن من أعجب ما نقرأ ونسمع التفاخر والتباهي بوضع ميثاق حقوق الإنسان، وأنهم لم يسبقوا إليه، وذكروا في ذلك ميثاق المادة الأولى: «يولد جميع الناس أحرار متساوين في الكرامة والحقوق وقد وثقوا عقدا وضميرا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء»، الكلمات تبعث البهجة في النفوس، ولكنها بقيت حبرا على ورق، ووضعت مواد لا واقع لها على الأرض، فمنذ أن دونت إلى يومنا هذا، وجدنا ملايين من أهل الأرض هضمت حقوقهم ودمرت بلادهم وصودرت حريتهم، وخاصة في بلاد المستضعفين من أهل الأرض.
لذلك كانت الحرية مبدأ من مبادئ الإسلام الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لعباده، فأعطاه حرية اختيار الدين: ﴿لا إكراه في الدين﴾، وأعطاه الحرية في ميادين الحياة، ولا يجوز لأحد أن يفرط في حقه في الحرية والكرامة، والنبي ﷺ قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد»، ولقد حقق الصحابة رضوان الله عليهم الحرية للناس، فأقبل ذلك القبطي إلى مدينة النبي ﷺ، يشكو ابن عمرو، ذك الذي ضربه في السباق، وأمر سيدنا عمر رضي الله عنه، يستقدم عمرو وابنه، وطلب من القبطي أن يضربه كما ضربه، وقال: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، لكن معنى الحرية تعرض للتلاعب والتحريف والاستغلال، فجعل الغربيون منه شراكا جميلا يصطادون به الضعفاء من الشعوب، وأدخلوا الشعوب في حروب دامية مدمرة لا غاية من ورائها إلا حراسة مطامع أولئك الأقوياء، واستبقاء سيطرتهم على موارد الثروة.
فهل اختلف معنى الحرية عند الفرنسيين والإسبان والإيطاليين على غيرهم من الإنجليز وغيرهم من أمم الأرض الذين سيطروا على الشعوب المستضعفة؟، لقد تلاعب بهذه المعاني حتى نبث من أبنائنا من أساء فهم الحرية، فانتقل إلى الفوضى.
فالحرية الفكرية عند بعض أبنائنا، أن يزهد بشأن عقيدة الأمة وأن يستخف بدينها وكتبها المقدسة، وأن يتطاول الابن على أبيه والتلميذ على معلمه والصغير على الكبير والجاهل على العالم، ومن لم يفعل هذا فهو رجعي لا يؤمن بالحرية.
والحرية الشخصية عند آخرين أن يعمل ما يشاء وأن يرتكب من المنكرات ما يريد دون حد لتصرفاته من آداب المجتمع وقوانين الدولة.
والحرية الصحفية عند آخرين أن يشتم خصومه السياسيين ويسبهم، وأن ينعتهم بالخيانة والسرقة والإجرام والتآمر، فإذا حيل بينه وما بين ما يريد كان عدوانا على الفكر وتضييقا على الصحافة وقيدا للقلم وفرضا للقانون.
هذه المفاهيم الخاطئة للحرية، نشأ عنها ما نراه في مجتمعاتنا من فوضى وفساد واضطراب على كل الصعد، فهذا تزوير باطل لأهم مبدأ من مبادئ الحياة الإنسانية.
أيها السادة أيها السيدات:
هل نرى أحدا يزعم أن من الحرية التجارية أن يتاجر الإنسان مع عدو وأن يتجسس له؟ وأن من الحرية الفكرية أن يدعى إلى تغيير نظام الدولة الآمنة بالقوة والعنف؟ وهل من الحرية الصحفية أن يشتم رئيس الدولة؟ وهل من الحرية الشخصية أن يعطل السير في طريق عام؟ يجب أن نفرق بين حرية تأذن باستعمال حق الإنسان بحيث لا يطغى على حق الآخرين، وبين الفوضى التي هي طغيان على حقوق الآخرين وتعبير عن الأنانية، وهي باب التخريب لكل شيء صالح.
لا بد أن يعلم أن الحرية سلاح له حدان إن استعملت استعمالا حكيما فهي أداة صالحة، وإن استعملت استعمالا سيئا فتصير أداة شر وفساد.
والنبي ﷺ ضرب مثلا وضع فيه الحد الفاصل بين الحرية والفوضى، عندما شبه المجتمع بسفينة، أصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في الأسفل إذا أرادوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لماذا لانخرق في مكاننا خرقا ونأخذ منه الماء ولا نؤذي من فوقنا؟ فكان عملهم عن حسن نية، وكانت العاقبة أن سيغرق الجميع، وقال النبي ﷺ: «فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجو ونجوا جميعا»، ففي هذا المثل ما يجب أن يكون عليه موقف الجماعة ممن يسيئون استعمال حريتهم الشخصية بما يؤدي الشعب، وأمن الوطن ويفسد على الناس أمرهم.
لقد علم سلف هذه الأمة معنى الحرية، فسيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول في خطبته الأولى: «أيها الناس إني وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني»، وهذا رجل يقول لعمر رضي الله عنه: اتق الله يا أمير المؤمنين»، فقيل له: أتقولها لأمير المؤمنين، فقال عمر: «دعوه فليقلها لي، نعم ما قال، لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها».
لذا يلزم أن نعلم أن الحرية جوهرة ثمينة تضاف إلى شخصية الفرد، لتعينه على حل مشكلاته، فهي ليست غريزة يلهث وراءها فاسدون ومفسدون.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيد للأمة مجدها وعزتها، وأن يكون لها حريتها في هذا العالم، من أجل أن ندخل إلى آفاق جديدة.