الحريات وأنواعها وموقف الإسلام منها
الحمد لله القائل في محكم تنزيله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا، والصلاة والسلام على من
كان خلقه ترجمةً للقرآن، قولاً وعملاً، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه حاملي لواء الحرية، وحماة حقوق البشرية، ومن سار على نهجهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
تعريف الحرية
أولاً: الدلالة اللغوية لكلمة الحرية: يُقال: حرَّ العبدُ، يحَرُّ حراراً وحرّيّةً، أي: صار حرّاً، وهو من الباب الرابع،وحرّره أي: أعتقه، والحرُّ: نقيض العبد، وجمعه أحرارٌ، والحرّةُ نقيض الأمَة، وجمعها حرائرُ، والحرّ من الناس: أخيارهم وأفاضلهم، والحرّ من كلِّ شيءٍ: أعتقُه، وفرسٌ حرٌّ، أي عتيق.
ثانياً: المفهوم الاصطلاحي: لقد خضعت كلمة الحريّة لتعاريف عديدة، ومفاهيم متنوّعة، عبر التاريخ الإنسانيّ، طبقاً لتطوّرات المجتمعات باختلاف مشاربها، ونظراً للظروف التي تحتّمها معايير التطوّر، وفقاً لمتغيّرات المكان والزمان، والذي يهمّنا هنا هو البعد المفهوميّ للكلمة من المنظور الإسلاميّ، فمعنى الحريّة في الاصطلاح الإسلاميّ: هي ما يميّز الإنسان عن غيره، ويتمكّن من ممارسة أفعاله وأقواله وتصرّفاته، بإرادةٍ واختيارٍ، من غير قسرٍ وإكراهٍ، ولكن ضمن حدودٍ معيّنةٍ.
يلاحظ من خلال هذا التعريف، وعلى وجه الخصوص قوله: «ولكن ضمن حدودٍ معيّنةٍ» أنّ الحرّيّة نسبيّةٌ، وليست مطلقةً، أي: أنّ مساحة الحريّة تتغيّى إلى حدودٍ معيّنةٍ، وأنّها لا بدّ أن تدور ضمن إطار المصلحة والخير، فإذا انتهت إلى مشارف الإضرار بالغير فلا بدّ أن تتوقّف، ويمكن استشفافُ معنى هذه النسبيّة من الحديث النبويّ الشريف: «مثل القائم في حدود الله، والواقعِ فيها، كمثل قومٍ استَهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقَوْا من الماء، مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرَقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكُوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجَوْا ونجَوا جميعاً».
وتشهد الوقائع التاريخية أنّ الإسلام هو المصدر الأول الذي أعلن مبدأ الحريّة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ، وهذه الكرامة الإلهية للإنسان تقتضي حريّته، وقد حصل ذلك قبل أن يرفع الغرب عقيرته في مادّته القانونية الأولى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بقوله: (يُولَد الناس جميعاً أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وهم قد وُهِبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يُعامِلوا بعضُهم بعضاً بروحِ الإخاءِ).
وما أدراك ما هذه الحريّة المزعومة! إنها الحرية الكائنة بينهم هم، تلك الحريّة المقنّعة، حريّةٌ باطنها فيه رحمةٌ لهم، وظاهرها من قبَلِه العذاب.
وقد احتفظت صفحات تاريخنا الإسلاميّ المبكّر للأجيال موقف الخليفة الراشديّ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مع عمرو بن العاص، عاملِه على مصر، حينَ صرّحه بمقولته المشهورة قائلاً: (متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟!). وذلك عندما لطم ابنُ عمرو عبدُ الله أحدَ أقباط مصر لمّا غلبه القبطيّ في مسابقة رياضيّةٍ.
إنّ الحريّة الحقيقية في عمقها وجوهرها في المنظور الإسلاميّ ترتبط بالكرامة الإنسانيّة، وهي مطلبٌ حيويٌّ، يسعى إليه كلّ كائنٍ بشريٍّ، وهي هبة إلهيّة، يمنحها الخالق لمخلوقه، فيصرّفها فيما يعود على نفسه بالسعادة والخير، وعليه فلا عبوديّة إلاّ لله الواحد الأحد.
قيود الحرية:
تشهد الساحات العالمية اليوم – وعلى وجه الخصوص- المجتمعات الغربية ممارساتٍ للحريّة الفوضويّة، التي في أبعادها المفاهيمية ما هي إلاّ انزياح عن مبدأ الالتزام؛ إذ باسم الحريّة تنتهك الحرمات، وتقترف أبشع الجرائم الخلقية، ودرءاً لحياة الإنسان عن الانغماس في وُحول هذه النوعية من الحريّات التفلتية، كان من حصافة التشريع الإسلاميّ أن قيّد الحرية بقيدين أساسيّين، وهما:
الأول: قيد داخليّ: وهذا القيد ينبعث من صميم الفؤاد، دوره السيطرة على النفس، وإخضاعها للمحاكمات العقليّة الرشيدة، فهو يكبَحُ جماح شهوات النفس وأهوائها العمياء؛ لأنّ التحرّر من تلكم الشهوات، وعبوديّة الانفعالات الجامحة، هو ما يُعرَف بـ(جهاد النفس) أو الجهاد الأكبر، فالإنسان لا يكون حرّاً، ما لم تتهذّبْ نفسُه، وتنمُ فيها مَلكَة الإرادة الراسخة، فمن فقد الهيمنةَ على أهوائه، ولم يتحرّر من إملاءات رغباته الانفعالية، فقد شسعت بينه وبين الحريّة المساوِفُ، وكان بينهما مفاوِزُ جمّة المخاوف، وإنّ أبرز مظاهر هذا القيد يتمثّل في فضيلة الحياء؛ جاء في الحديث النبوي: «لكلِّ دينٍ خلقٌ، وخلق الإسلام: الحياءُ» .
الثاني: قيدٌ خارجيٌّ: ينظّمه القانون، نظراً لضعف القيود النفسيّة واضمحلالها أمام رغباتها، وما هذان القيدان في حقيقة الأمر إلاّ حماية للحريّة وضبطها، وقد أشار الإمام السخاويّ إلى قيود الحريّة بقوله: (الإسلامُ أعطى الإنسانَ الحريّةَ؛ وقيّدها بالفضيلة حتّى لاينحرِفَ، وبالعدل حتّى لا يجورَ، وبالحقّ حتّى لا ينزلِقَ مع الهوى، وبالخير والإيثار حتّى لا تستبِدّ به الأنانيّة، وبالبعدِ عن الضّررِ حتّى لا تستشريَ فيه غرائزُ البشرِ) .
ضمانات حريّات الإنسان في الإسلام:
يُقصَد بضمانات حريّات الإنسان وحقوقه، تلك الوسائل الدستورية والقانونية والرقابية التي يمكن ممارستها من الناحية التطبيقية، للمحافظة على حريّات الناس من خرقها والتعدّي عليها، وقد صيغت نصوص المواثيق والمعاهدات والدساتير على المستويين الوطني والدوليّ لضبط سير الحقوق والحريات، والنظام الإسلاميّ تبنّى أسساً بالغة الأهميةِ في هذا المجال، تتمثّل في: ولاية المظالم، وولاية الحسبة، والرأي العام.
1- ولاية المظالم: مهامّ هذه الولاية هي: النظر في تعدّي الولاة على الرعيّة، وجور العمّال في جباية الأموال، وتظلّم الجنود من نقص أرزاقهم أو تأخّرها، وردّ الغصوب، والنظر في الوقوف العامة والخاصة، وتنفيذ ما توقّف من أحكام القضاة عن التنفيذ، لعجزهم بسبب قوّة المحكوم عليه، ومراعاة العبادات الظاهرة كالجمع والأعياد والحجّ، وهذه الولاية أشبه بنظام القضاء الإداري في العصر الحاضر.
2- ولاية الحسبة: والحسبة وظيفة الأمر بالمعروف عند تركه، والنهي عن المنكر عند ظهوره. وهذه هي القاعدة الشرعية التي بُنِيت عليها هذه الولاية، انطلاقاً من قول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. ووظائف المحتسب هي: مراقبة الأسواق والحرف والتسعير والموازين، ومراقبة الأخلاق العامة، وصيانة الأبنية والطرق، وغيرها من الأمور التي تعود بالنفع العام على المجتمع.
3- الرأي العام أو الرقابة الشعبية: يقصد بهذه الرقابة مراقبة أفراد الشعب لأنفسهم، في مختلف المسائل التي تتعلّق بحقوقهم وحرياتهم؛ لأجل حسن تطبيقها، وتعدّ هذه الرقابة من أنجح الوسائل والسبل وأكثرها فعاليّة لحماية الحريّات وضماناتها، ومن هنا جاء الحديث النبويّ حاثّاً الناس على فعل الخير وتحمّل المسؤوليات، قال عليه الصلاة والسلام: «كُلّكم راعٍ، وكلّكُم مسؤولٌ عن رَعِيّتِه».
أنواع الحريّات:
أولاً: الحريات الشخصيّة:
الحريّة الشخصيّة أو حريّة الفرد: أصل الحريّات، وهي نواة حريّة الجماعة وأساسها، وهي أيضاً عظيم الخطر؛ لتعلّقها بنفس الإنسان وبصميم كرامته، ومعناها في الفكر القانوني والتشريعيّ: قدرة الإنسان على ممارسة أيّ عملٍ لا يضرّ الآخرين، وهذا يعني أنّ حريّة الفرد تنتهي حيثُ تبتدِئُ حرِيّةُ غيرِه، وتشمل هذه الحريّة: حقّ الأمن الشخصيّ، وممتلكاته، وحريّة الإنسان في الإقامة وحرمة المسكن، وكذلك حريّة سفره وتنقّله في وطنه، أو سفره إلى الخارج، وحقّه في مزاولة العمل وتعاطي المهن، فلا يجوز التعدّي على أيّ مواطنٍ، ولا معاقبته، أو توقيفه وحبسه إلاّ بمقتضى القانون، كما لا ينبغي استعباده ولا استرقاقه، فليس لأحدٍ أيّاً كانَ الحدُّ من هذه الحريّات الفرديّة إلاّ في حالاتٍ استثنائية لمصلحةٍ خاصّةٍ أو عامّةٍ، ومن ذلك منع الإنسان عن السفر دخولاً وخروجاً إبّان انتشار الأوبئة الفتاكة والأمراض المعدية؛ قال عليه الصلاة والسلام: «إذا كان الطاعون بأرضٍ فلا تدخلوها، وإذا كنتم فيها فلا تخرجوا منها».
حريّة المرأة: من القضايا الشائكة التي تتعرّض لكثرة الجدل في المحافل الدولية، وقد اختلفت فيها الرؤى والأنظار قضيةُ المرأة وحريّتُها، ونحن إذ نتعرّض لمسألة حريّة الإنسان، لا بدّ لنا أن نُعرِّج على قضيّة حرية المرأة لبيان موقف الإسلام منها.
لقد جعل الله تعالى المرأة شريكة للرجل لعمارة الأرض منذ بدء الخلق، ولكلٍّ منهما حقوق وواجبات، قال تعالى: ﴿ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف﴾ ، ولاختلاف طبيعة المرأة عن الرجل تباينتْ أوجهُ حقوقهما في بعض الحالات، فالمرأة في ميزان الشريعة كالرجل، لم تمنعها من ممارسة حريّتها في العمل والتعلم والتملك وإبداء الرأي، والقوامة الواردة في القرآن الكريم ما هي إلاّ جزءٌ من نظام متكامل، وكلّ طرفٍ من الجنسين موكولٌ إليه دورهُ التكامليُّ.
هذا، وإنّ مفهوم حريّة المرأة أدّى إلى البروز على الساحة ما عُرف بـ(الحركة النسويّة)، تلك الحركة التي أقامت عرشها على أنقاض القيم السلوكية، واهتزاز المبادئ الأسريّة والاجتماعيّة، فحوّلت المرأة إلى سلعةٍ عبر دور الأزياء وعروضها، يستعبدها الرجال لإشباع غرائزهم، وإنّ الشريعة الإسلامية الغرّاء أعطت للمرأة حقّها لتخرج للعمل عند الحاجة، لكن ليس على حساب تربية أولادها، وأن تكون ملتزمةً بالأحكام والآداب الإسلامية، كالالتزام بالحجاب والحياء وعدم الاختلاط.
ثانياً: حريّة العقيدة والعبادة. أقرّت نصوص الشريعة الإسلامية للأشخاص الحريّة في اختيار عقيدتهم، وممارسة شعائرهم الدينية، دون إكراهٍ ولا اعتراضٍ ولا مضايقة؛ قال تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، ومن الشواهد التاريخية على حريّة التديّن عبر عهود التاريخ الإسلامي إقرار النبي صلى الله عليه وسلّم لليهود في وثيقة المدينة المنورة حريّة ممارستهم لشعائرهم الدينية، وورد في هذه الوثيقة ما يلي: إنّ يهودَ بني عوفٍ أمّةٌ مع المؤمنينَ، لليهود دينُهم، وللمسلمينَ دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلاّ من ظَلَم وأثِم، فَإنّه لا يُوتِغ إلا نفسَه وأهل بيتِه.
ثالثاً: حريّة التفكير والتعبير عن الرأي: لقد تجلّت مظاهر إرساء مبدأ حريّةِ التفكير والتعبير عن الرأي في الإسلام عبر العهود التاريخية الإسلامية، حيث تمخّضت الاستعدادات التكتيكيّة في تعيين موقع نزول الجيش المسلمين في معركة بدر الكبرى عن أروع صورةٍ تطبيقية لمعنى الحريّة، وذلك عندما أدلى الصحابيّ الجليل الحُباب بن المنذر للنبيّ عليه الصلاة والسلام برأيِه الحصيف في الحلول بموقعٍ قريبٍ من الماء، حتّى يحول الجيش الإسلاميّ بين المشركين وبين الماء.
رابعاً: حريّة الاجتماع. إنّ الإسلام لا يمانع الناس هذا الحقّ ما دام الاجتماع يرمي إلى الخير والمصلحة للناس، وإنّ الشورى التي دعا إليها الإسلام لمن وظائف الجماعة، وهي مبدأ إنسانيّ نبيل، ومطلب دينيّ عظيم، قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾ ، وإن اجتماع الصحابة إثر وفاة النبي ﷺ في سقيفة بني ساعدة للنظر في مسألة الخلافة لمن أروع مظاهر هذا المبدأ.
فللجماعة حق الحريّة في تنظيم الاجتماعات السلمية العامة والخاصة، وقد نصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حريّة الفرد في المشاركة في الاجتماع السلمي في المادّة (20): ( لكلِّ شخصٍ حرّيّة الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية، واشترط القانون للاجتماع العام ثلاثة شروطٍ، وهي: إبلاغ الحكومة، وعدم حمل السلاح، والغاية المباحة.
خامساً: الحريّة الاقتصاديّة.
لأفراد الشعب حريّة مزاولة التجارة والصناعة والزراعة، وكذلك حريّة تأسيس المشروعات التجارية الخاصة وإدارتها، وإنشاء المصانع، والإسلام أعطى الإنسان مسلماً كان أو غير مسلم حقّ ممارسة الحياة الاقتصادية ونشاطاتها، وأن يكون ذلك في حدود الكسب المشروع، وليس للدولة حقّ التدخّل لتقييد هذه الحريّة إلاّ في أحوالٍ معيّنةٍ، فيما فصله علماء الفقه، كالغش والاستغلال والتسعير الفاحش، وكالربا والاحتكار وغيرها؛ وفي الحديث النبوي الشريف: «دَعُوا الناس يرزُق اللهُ بعضهم من بعضٍ».
وأيّ أمّة فقدتْ حريتها الاقتصادية، وسيادتها الكاملة في معاملاتها وعقد صفقاتها التجارية، كرجلٍ وُضِع في عنقه الحبلُ، وقد أمسكَ بطرفيْه رجلانِ ذوَا بأسٍ شديدٍ، وهمَا يُهدّدانِه بالخنَقِ ويتوعّدانه بالموت، والمسكين يترقّب أنْ تفيض روحُه من حينٍ لآخرَ .
سادساً: الحريّة السياسيّة.
إنّ الحريّة السياسيّة في حقيقة مدلولها هي أن تكون الأمم والدول مستقلّةً استقلالاً تامّاً في كلّ شأنٍ من شؤونها، وغيرَ مقيّدةٍ بسلاسل أمّةٍ أخرى، ولقد أولى الإسلام للحريّات والحقوق السياسيّة اهتماماً بالغاً، وربط صلاح الأمّة باستقامة أمرائها وأولي أمرها، وجعل للمواطن حقّ الإسهام في شؤون الدولة السياسية من خلال حقّ التصويت والترشيح في الانتخابات، وإنّ أساس هذا الحقّ ينبثق من مبدأ الشورى الذي أرسى الإسلام دعائمه، قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾ ، والمسلم في نظام الإسلام السياسي مدعوٌّ بقوّةٍ إلى المشاركة والاهتمام بشؤون العامة، وجعل الشرع انتماءه للأمّة مرتبطاً بإيلائه الاهتمام بقضاياها، جاء في الحديث النبوي الشريف: «ومن لم يَهتَمّ بأمرِ المسلمين فليسَ منهم».
وتتجلّى الحريّة السياسيّة وحقّ ممارستها في الإسلام في موضعين: أولهما: المشاركة في اختيار الحاكم عن طريق أهل الحَلّ والعقد، وعن طريق بيعة جُمهور الشعب المسلم ورضاه بمن يختاره أهل الحلّ والعقد. ثانيهما: إبداء الرأي والنصح للحكام، ونقد سياساتهم في ظلّ ضوء مقاييس الإسلام ومصلحة المسلمين بقصد الإصلاح.
سابعاً: الحريّة الاجتماعيّة.
يراد بهذه الحريّة كفالة الدولة وتأمينها للمواطنين حقوقهم نحوها، فيما يحتاجون إليه في حياتهم المعيشيّة، وأن توفّر لهم وسائل الرعاية الصحيّة، وهذا يشمل أمورا أساسيّةً ثلاثةً:
1-حريّة التربية والتعليم والتعلّم: فحرّيّة التعليم: هي حقّ المتعلّمين من مدرسين وأساتذة في تلقين غيرهم من أبناء أمتهم المعلومات السليمة والنافعة، وتزويد الناشئين بالعلوم ما يتوقّف عليها تقدّم الوطن وازدهاره، ولكلّ فردٍ حريّة تعلّم ما يشاء من فنون العلم وتخصّصاته كالطب والصناعة وعلوم الطبيعة والتقنية ونحوها، وإن التربية مع التعلّم جزآن لا يتجزّآن، وهي عبارة عن غرس الأخلاق الفاضلة في نفوس الناشئين، وسقيها بماء الإرشاد والتوجيه السليم والنصيحة، حتّى تغدُوَ ملكةً من ملكات النّفسِ. قال الشاعر:
إنّما الأمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيتْ فَإنْ همُو ذَهبتْ أخلاقُهم ذهبُوا
والإسلام أولى للعلم والثقافة والتربية عناية فائقةً، من خلال الآيات الأولى نزولاً، قال تعالى: ﴿إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم﴾، وبفضل امتثال المسلمين منذ فجر الإسلام بطلب العلم أقاموا أكبر حضارةٍ إنسانيّةٍ عرفها التاريخ البشريّ، وكانوا أساساً للحضارة الغربية الحديثة التي نشهدها اليوم، وقد جعل النبي ﷺ فداء أسرى الكفار يوم بدر أربعين أوقيةً، فمن لم يكن عنده، علّم عشرةً من المسلمين.
2- حقّ الرعاية الصحيّة والاجتماعية: من واجب المواطنين على الدولة تأمين الصحّة لهم عن طريق بناء المستشفيات والمخابر الطبية، وقد ثبت «أن النبي ﷺ داوى أولئـك النفر الذين أسلـموا في المدينة المنورة وأصيبوا بمرضٍ، وخصّص لهم مكاناً صحّيّاً حتّى شفَوْا».
3- حقّ العمل والتوظف: قرّر الإسلام حقّ العمل وحريّة مزاولته لكل فردٍ، وجعله مقدّساً، وحثّ المجتمع على توفيره للقادرين عليه، والقرآن الكريم من خلال آياته البينات يوجّه الناس إلى الانتشار في مختلف نواحي البلاد طلباً للرزق الحلال، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾.
ونختم الكلمة بنصّ الإعلان الإسلاميّ لحقوق الإنسان في مادته (11): (أ-يولَدُ الإنسانُ حرّاً، وليس لأحدٍ أنْ يستَعبِدَه، أو يُذِلّه، أو يَقهَرَه، أو يَستَغِلَّه، ولا عُبودِيّةَ لغير الله تعالى.
ب_الاستعمارُ بشَتّى أنواعه، وباعتبارِهِ من أسوأ أنواع الاستعباد محرّمٌ تحريماً مؤكّداً، والشّعوب التي تعانيه الحقُّ الكاملُ للتحرُّرِ منه، وفي تقرير المصيرِ).