التوبة -1-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الحمد لله الكريم الوهاب، الرحيم التواب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، يحب التوابين والمتطهرين ويعفو عن السيئات ويضاعف الحسنات، ويجزي الشاكرين ويقول: “ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم”، نحمده تعالى ونشكره على أن فتح لعباده أبواب رحمته وأمرهم بالإسراع إلى توبته، وقال جل وعلا في كتابه: “وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون”، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، سيد التائبين وإمام المرسلين وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تابوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، إن التوبة من الذنوب التي نرتكبها والأخطاء الكثيرة التي نقع فيها ونتعمدها واجبة علينا فورا قبل فوات الأوان، وذلك بالندم على أعمالنا، والرجوع إلى ربنا غفار الذنوب وستار العيوب الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ربنا الذي لاتنفعه طاعة المتعبدين، ولا تضره معصية من “أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار”، ولكنها أعمالنا تحصى في الدنيا ثم تعرض علينا يوم العرض الأكبر على الله، “يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا”، فمن وجد منا خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، والتوبة من الذنوب طريق السالكين وشعار المؤمنين، ورأس مال الفائزين الذين يؤمنون بأن الإنسان خطاء وخير الخطائين التوابون، ويعلمون أن كل ابن آدم مخلوق ضعيف، لا يستطيع مقاومة أعدائه الكثيرين من شياطين الجن والإنس الذين يحسنون له القبيح، ويقبحون في نظره المليح، ومع هؤلاء نفسه الأمارة بالسوء التي تدعوه إلى تناول الشهوات المحرمة، وارتكاب الموبقات الخطيرة المدمرة، فهو معرض للخطر من كل جانب، وللزلات من كل حدب وصوب، ولكن مع هذا كله قد جعل الله له حصنا حصينا إذا هو آوى إليه واحتمى به رجعت هذه الأعداء خاسئة مذحورة وولت خائبة مقهورة لا تلوي على شيء ولا تؤثر فيه بشيء، وذلكم الحصن هو التوبة إلى الله والرجوع إلى كتابه المبين، والإعتصام بحبله المتين، قال تعالى: “فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله، هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير”، فمن بدرت منه خطيئة أو ارتكب معصية فبادر إلى التوبة والإستغفار من الحوبة، وأتبع السيئة الحسنة كفر الله عنه تلك الخطيئة، ومحا عنه تلك المعصية، ووقاه خطرها ودفع عنه شرها، والله تعالى يقول: “ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما”، واعلم أخي أن التوبة الصادقة تمحو الخطيئة مهما عظمت، وتدفع الذنوب مهما كثرت، والله تعالى يتلطف بعباده الذين كثرت سيئاتهم وعظمت خطاياهم فينهاهم عن أن تحملهم كثرتها على القنوط من رحمة ربهم، وترك التوبة منها فيقول لنبيه: “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن ياتيكم العذاب ثم لا تنصرون”، وفي الحديث القدسي: “يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو آتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة”، ولكن أخي المسلم وأختي المسلمة، ليس معنى هذا أن يعتمد العبد على سعة عفو الله ورحمته ويتمادى في المعاصي والذنوب وينسى العقوبة والإنتقام من العصاة الذين لا يراقبون علام الغيوب، لأن هذا معناه الأمن من مكر الله، “ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون”، والأمن من مكر الله من كبائر الذنوب، والله تعالى يقول: “أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين، أو يأخذهم على تخوف، فإن ربكم لرؤوف رحيم”، وفقني الله وإياكم للتوبة النصوح والعمل الصالح واجتناب الفواحش، وجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المسلمون، يجب على العبد أن يعترف بذنبه، ويطلب مغفرته من ربه، ويبادر بالتوبة في شبابه، لأنه كلما بادر الإنسان بالتوبة كان حظه من عفو الله أقرب وأعظم وأوسع. فلماذا يؤخر المذنب توبته حتى يكبر ويهرم؟ وربما ينتقل إلى الدار الآخرة قبل ذلك فيذهب مثقلا بذنوبه فيندم ولات ساعة مندم، ولقد قسم القرآن التوابين إلى قسمين: قسم يتوب من قريب، وقسم ينتظر بالتوبة حتى تصل الروح الحلقوم، فقال الله تعالى في القسم الأول: “إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما”، وقال في القسم الثاني: “وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار، أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما”، فالذين يتوبون من قريب يقبل الله توبتهم ويفرح بها ويغفر لهم ذنوبهم، أما الذين يسوفون بالتوبة حتى سكرة الموت والذين يموتون وهم كفار فلن تقبل توبتهم وتبقى أوزارهم عليهم إلى يوم القيامة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، أي ما لم تحضره الوفاة، ومن يدري متى يموت؟، إنه لا يعلم أحد متى نهاية أجله، لأن الموت يمكن حضوره في كل لحظة، “وما تدري نفس بأي أرض تموت”. فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بالتوبة قبل فوات أوانها، فإن الأعمار محدودة، والمهلة مقدرة، ولكل أجل كتاب، وكل ما هو آت قريب، ولنا عودة لهذا الموضوع إن شاء الله تعالى في الجمعة القادمة. إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما. الدعاء