التفكر كيف نفهمه وكيف نمارسه

التفكر كيف نفهمه وكيف نمارسه

الدكتور مولاي عبد المغيث بصير

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.

أما بعد فيا عباد الله، روى الإمام ابن حبان في صحيحه عن عطاء أن عائشة رضي الله عنها قالت: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلتي، وقال: يا عائشة، ذريني أتعبد لربي عز وجل، فقام إلى القربة، فتوضأ منها، ثم قام يصلي، فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، فقال: يا رسول الله، ما يبكيك، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي، وقد أنزل الله عليّ هذه الليلة:” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”، قال عليه الصلاة والسلام: “ويل لمن قرأها، ولم يتفكر فيها”، وقال تعالى في آيات أخرى:”إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”، ويقول عز وجل:”إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ “، ويقول أيضا :” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ “، ويقول:” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ “، ويقول:” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى “، الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات يدعو عباده إلى التفكر وإحالة النظر العميق في ملكوت السماوات والأرض، وإلى أن يمعن المرء النظر في نفسه وما حوله، فتحا للقوى العقلية على مصراعيها.

عباد الله، إن التفكر والتأمل في آيات الله تعالى الكونية عبادة عظيمة غفل عنها الكثير من الناس في عصرنا الحاضر، وهي من العبادات الجوهرية التي هجرها الكثيرون في هذا الزمان، عبادة دعا إليها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ومارسها السلف الصالح رضي الله عنهم وتقربوا بها إلى الله عز وجل.

وكثير منا يظن أن العبادة محصورة في أعمال الجوارح وجهِل أو تجاهل أنّ للقلب كذلك أعمال يُتعبّد بها، وقد يكون عمل قلبيّ أفضل من بعض أعمال الجوارح، وهذا الهجر لعبادة التفكر سبب خللا في أولوياتنا، إذ أصبحنا نهتم بأمور هي دون عبادة التفكر في الاعتبار الشرعي والفائدة المرجوة، لأن المسلم عموما لا ينبغي أن تكون نظرته للأشياء عادية، ولا نظرة سطحية لظواهرها، بل ينبغي أن تكون نظرته للأشياء من حوله نظرة عبادة، نظرة عميقة تحمله من معرفة المخلوق إلى معرفة الخالق سبحانه، الذي خلق الكائنات وأبدع النظام الذي تسير عليه، يقول تعالى: “الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ”، ويقول أيضا: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً”.

فمامعنى التفكر وماهي حدوده؟ وأين تكمن أهميته؟، وكيف مارس السلف الصالح عبادة التفكر؟ وماهي فوائده وثمراته والشروط المساعدة عليه؟ وكيف نربي أنفسنا على التفكر؟

التفكر عباد الله يدل على تردد القلب في الشيء، يقال تفكر إذا ردد قلبه معتبرا، ولفظ الفكر والتأمل وإعمال الخاطر في الشيء بمعنى واحد، فالتفكر إذن هو تصرف القلب في معاني الأشياء لإدراك المطلوب، والتفكر يكون في دلائل عظمة الله تعالى وفي مخلوقاته، فالله عز وجل هو الحق، ولا يمكن لأحد أن يتفكر في ذات الله عز وجل، لأن إدراك ذلك ممتنع على العقول، فالعقول لايمكنها أن تحيط بخالقها جل جلاله، فهو أعظم من أن يحاط به، فهو سبحانه ليس له شبيه ولا نظير، فالتفكر ينبغي أن ينصب إذن على جوانب من عظمة الله، والأمور التي نعرف بها أوصاف كماله، والتفكر مطلوب في دلائل وحدانيته وقدرته، والجوانب التي يمكن أن يصل إليها عقل الإنسان، كدلائل قدرته في آياته المشاهَدة والمتلُوة ونعتبر في ذلك، وهذه هي حدود التفكر التي لاينبغي لنا تجاوزها، قال صلى الله عليه وسلم: ” تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته، فإنكم لن تقدروا”، لأن التفكر في نعم الله هو شرط معرفة الله ومحبته.

وينبغي أن نعلم أيها المسلمون أن من أبواب الشيطان العظيمة حمل الناس على التفكر في ذات الله تعالى وصفاته وفي أمور لا يبلغها حد عقولهم حتى يوقعهم في الشك في أصل الدين، أو يخيل إليهم في الله تعالى خيالات وظنونات يتعالى الله عنها ويجل شأنه عن نسبتها إليه، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول:من خلقك؟ فيقول: الله تبارك وتعالى، فيقول فمن خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله”. أسأل الله عز وجل أن يلهمنا التفكر في آلائه وآياته وأن يجعل لنا ولكم حظا في عبادة التفكر أمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

أما بعد فياعباد الله، يقول الله سبحانه وتعالى :” وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا”، وقال أبو الدرداء رضى الله عنه:” تفكر ساعة خير من قيام ليلة”.

أيها المسلمون، وإذا أمعنا النظر في حال السلف الصالح رحمهم الله ورضي عنهم مع التفكر نجد أنهم خصصوا كثيرا من أوقاتهم لهذه العبادة، لما علموا لها من نتائج، فيكفي أن أذكر لكم أنه لما سئلت أم الدرداء رضي الله عنها عن أفضل عبادة أبي الدرداء رضي الله عنه قالت: “التفكر والاعتبار”، وقال الرباني الكبير أبو سليمان الداراني رحمه الله: “إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله فيه نعمة ولي فيه عبرة”، وعن محمد بن كعب القرظي رحمه الله قال: “لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ”إذا زلزلت” و”القارعة” لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلى من أن أهذّ القرآن ليلتي هذًا بمعنى أن أسرع فيه، أو قال أنثره نثرًا، وعن طاوس رحمه الله قال: “قال الحواريون لعيسى ابن مريم: يا روح الله، هل على الأرض اليوم مثلك؟ فقال: نعم، من كان منطقه ذكرًا وصمته فكرًا ونظره عبرة فإنه مثلي”، وكان لقمان رحمه الله يطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك، فلو جلست مع الناس كان آنس لك، فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة”، وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله يوماً لسهل بن علي رحمه الله -ورآه ساكتا متفكراً-: أين بلغت؟ قال: الصراط، وقال بِشْر رضي الله عنه: ” لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل”، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ر”كعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب”. فهذه إذن بعض أقوال وأحوال بعض رجالات السلف في ممارستهم لعبادة التفكر، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المومنين الموقنين آمين والحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *