التدين الشعبي ورعاية حقوق الإنسان في السودان
عنوان هذه الورقة: «التدين الشعبي ورعاية حقوق الإنسان في السودان»، عنوان يتطلب توضيحا بما يتقصده من دلالة وما يرمز إليه من معنى، وهو أن التدين الشعبي مقالة تشير إلى
حركة التصوف والصوفية في السودان، وهو استخدام لا أزعم سبقا في إبداعه،
والتصوف بحسب الكثير من المؤرخين والباحثين خصوصا الشيخ البروفسور حسن الفاتح قريب الله، الذين يذهبون إلى أن التصوف ظهر بظهور الإسلام في السودان …
إنه –التصوف- هو المتنفس الطبيعي لأهل السودان وقد وسم مزاجهم بشكل كبير، وهو ما قد يلمحه الرائي فى النزعة الروحية التي تسم حياة أهل السودان لايند عن هذا المزاج سوي استثناءات محدودة …
والورقة من جهة ثانية لا تروم اعتساف حقائق المؤسسة الصوفية في رعايتها حقوق الإنسان بما يتماشى مع ما جاء بآخره من دعوات ومواثيق وإعلان لحقوق الإنسان، ذلك لأن التصوف في السودان في استمداده العميق من الكتاب والسنة هو يؤمن على رعاية الحقوق بحفظ كرامة الإنسان وحريته في التفكير وحقه في مساواة دون حيف أو ظلامه .
لذا فان غاية ما أرجوه وأطمح إليه من خلال هذه السطور، هو تقديم صورة عن المؤسسة الصوفية السودانية من خلال بعض الصور الباهرة والتي أخذت تتضام لتعكس لوحة قشيبة لمجتمع متقدم روحيا وإنسانيا..
المشيخات والتكايا والزوايا على امتداد رقعة السودان الجغرافية ظلت تقوم بدور متعاظم بشأن حق التعليم المنصوص عليه لاحقا ضمن مبادئ الإعلان الدولي لحقوق الإنسان..
ظلت هذه المقامات تفتح أبوابها لطلبة العلم، يفدون دورها وخلاواها للعلم منذ قرون، وهي توفر لهم مستقرا يسكنون إليه وأشياخا يقومون بتحفظيهم القرآن الكريم، وبعض مايحتاجونه من فقه يعينهم على أداء الفروض ودروس في اللغة والحساب..
نهض (المسيد) عبر الحقب بدوره في تعليم أبناء السودان دون تمييز بسبب اللون أو العنصر أو الفئات العمرية، ودون افتئات على الآخرين، بل وهو أول من حقق مجانية التعليم، إذ يجيئه الطلاب بواسطة ذويهم ليس لهم سوى مايلبسونه فقط على أجسادهم فقط ويقوم (المسيد) بتوفير السكن والغذاء والكساء وتأمينه طوال فترة دراسته وحفظ سلامته الشخصية دون مقابل، وفي بعض الخلاوي ينهض القائمين على الأمر بتعليمهم حرفة جديدة تكون معينا لهم في الحياة، خصوصا التي تقع في مناطق زراعية أو قريبا من المراعي .
وعندما تطورت الحياة لاحقا تطور التعليم المصاحب لتحفيظ القران وعلومه، حيث أنشأت بعض المشيخات معاهد للتعليم الديني ينتقل إليه الطالب بعد استظهاره لكتاب الله ليقوم بتلقي بعض العلوم في الفقه والحديث والميراث واللغة، ومن ثم تخرجه اما ليكابد الحياة وقد نال حظوة من تعليم يفك جهله وقد استوعب علما نافعا أوعبر ابتعاثه إلى مؤسسات تعليمية أخرى، وقد حفظ (المسيد) من خلال هذه الحصة من التعليم نفر كبير من التقدم إلى وظائف حكومية رغم محدوديتها وارتباطها بصورة عامة بالمؤسسات التعليمية أو المنتمية للشؤون الدينية، إلا أنها ساهمت في تعليم أفراد ودفعت بهم إلى الحياة العامة.
في ذات الاتجاه وعند بروز التعليم النظامي لم تكتف المشيخات بتعليم الطلاب في الخلاوي والمعاهد التابعة لها، وإنما دفعت ببعض النوابغ إلى المدارس، إضافة إلى أن بعض البيوتات الصوفية في الخرطوم عاصمة البلاد كانت تنهض بعبء تعليم بعض الطلاب من أبناء مريديهم، والذين يفدون من الأقاليم رغبة في مواصلة التعليم في الجامعات، حيث يقوم (الشيخ) بتوفير سكن لهم داخل (مسيده) وما يستلزم ذلك من خدمات، حتى مصاريف الدراسة، وقد نبغ عدد كبير من هؤلاء فى مجالات الطب والهندسة والمحاسبة .
وفي الفترة الأخيرة قامت بعض المشيخات والطرق باستحداث كليات للعلوم الحديثه تتوافق مع ما توفره خلاواهم ومعاهدهم خصوصا في الأقاليم والقرى، ويقوم مثالا لذلك كلية الشيخ عبدالله البدري فى مدينة بربر بشمال السودان، حيث أسهمت طريقته في تيسير فرص التعليم الحديث لأبناء وبنات المنطقة بصورة متساوية مع نظراءهم في العاصمة والمدن الكبيرة.
دور (المسيد) في السودان لايقف عند موضوع التعليم والمساواة وصيانة كرامة الإنسان، مما تنص عليه مبادئ وحقوق الإنسان، وإنما تتعداه إلى مسائل أخرى بضرورة تعليم المرأة وحفظ حقها، سواء بالتعليم الديني غير النظامي، إذ نهض في شرق السودان رجال صالحون يستشرفون المستقبل، أمثال الشيخ علي بيتاي وكذلك مشائخ خلاوي همشك وريب في مجتمع يعتبر خروج المرأة ترفا لاطائل من ورائه، وهو مع ذلك بذل جهدا كبيرا في مغالبة الثقافة السائدة، يستحث الناس لتعليم بناتهم وتعليمهم علوم دينهم ليحفظوا حقوق آبائهم وأزواجهم، ومع إقبال هؤلاء إلى ذلك تنامى تعليم المرأة في تلك البقاع ليتقدم التعليم في المنطقة ويحدث نقلة كبيرة في حياة الناس ويعزز الثقة بأنفسهم تجاه تعليم بناتهم هذا فضلا عن مساهمة المؤسسة الصوفية في محاربة الظواهر السلبية في المجتمع برعاية حقوق المرأة في عيش كريم وحياة مستقرة، بالدعوات المستمرة إلى بناء الأسرة بوعي متقدم، بل وساهم بعض الأشياخ في محاربة العادات الضارة مثل ختان الإناث، الذي يشغل بال منظمات حقوق الإنسان، ولقد جهر بعض علماء الصوفية بخطر تلك وضرورة الحد منها بينما يتلجلج كثير من علماء الجماعات الدينية الأخرى عن مجرد الخوض في مثل هذه الأمور،هذا إن لم يقوموا بتلبيس مخاطرها وحقائقها على الناس.
التدين الشعبي في السودان أو التصوف بحكم مصادره وملابسات دخوله السودان ينتشر مترفقا بعادات وتقاليد الناس عبر محاولات لإدماجهم في حياة التصوف ورعاية حقوقهم وثقافاتهم، حيث ينتبذ العنف والقهر في دعائهم إليه عن رضى وطواعية، وهو في ذلك يستمد من طاقة روحية هائلة جعلته طوال القرون موئلا للحكمة، وظلت مراكزه كذلك مقاما لبث روح السلام والتعايش السلمي، حيث لم تشهد نواصيه العنف والحرابة والإرهاب بل ظل السادة الصوفية عمادا لدعوات الإصلاح السياسي والاجتماعي حتى هذه اللحظة لينهض (المسيد) بدور فعال في فض المنازعات ورد الحقوق دون من أو استكثار.
عود على ذي بدء…
هذه الورقة تقدم إشارات حول المفهوم الكبير لمعاني حقوق الإنسان وتقدم المؤسسة الصوفية في السودان، وأدوارها في تعزيز ذلك عبر قرون طويلة، حيث ضمنت للإنسان حقه في المساواة والحرية والعدالة وبناء الشخصية السودانية، على أسس تحفظ كرامته وتحفظ حقه في التعليم وتعمل على إدماجه في نسيج مجتمعه وثقافاته، بما يتسق وأصوله الفكرية والدينية وتدفع بالمجتمع للعيش في سلام مستدام دون عنف وإرهاب فكري في سماحة عظيمة ودون إرهاب للآخر، ودون تمييز تضيق معه حياة الإنسان !!!