ذكرى المسيرة الخضراء
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،
أما بعد، فياعباد الله، سيخلد الشعب المغربي يوم السادس من نونبر ذكرى المسيرة الخضراء، وهي مسيرة تاريخية لشعب آمن بحقه في تحرير أرضه، وكانت هذه المسيرة من تخطيط أمير المؤمنين الحسن الثاني رحمة الله عليه، الذي لم يكن يهدف من ورائها غزو أرض ولا نشر مذهب، بل كان يتغيى أن تعود الأرض إلى أصحابها، ويتمم مشروع التحرير، وتستكمل بذلكم وحدة المغرب الترابية، بعد الانقسام والانفصال الذي فرضه الاستعمار الإسباني على الجنوب المغربي، وكانت بحق أسلوبا سلميا جديدا في التحرير.
أيها الإخوة الكرام، وبهذه المناسبة فإنني سأتوقف عند أهم المحطات التاريخية التي لها علاقة بالذكرى، وخاصة عند أهم الدروس التي ينبغي أن نستفيدها في أيامنا هذه، لأن أعداءنا لازالوا يتربصون بنا الدوائر، بغية تقسيم أرضنا وفتنة مجتمعنا، وتشكيل دويلة في جنوب مغربنا.
بداية أيها الإخوة والأخوات، مامن عاقل متبصر في هذا العصر إلا ويعلم أن ديار الإسلام هي المستهدفة من خلال الأحداث المختلفة التي ترونها أو تسمعون عنها، سواء منها ماقرب أو بعد، وأن ديار الإسلام هي المستهدفة من خلال الشعارات التي ترتفع، ومن المعلوم لكل عاقل أيضا أن السلاح الاستراتيجي الأول الذي يستعمل بادئ ذي بدء للقضاء على ديار الإسلام إنما هو سلاح التفرقة، إنما هو سلاح تأليب المسلمين بعضهم على بعض، ومنذ القدم وأعداء الدين يعملون على تفتيت المسلمين، ويسخرون مابدا لهم من أجل ذلك، لتحويلهم إلى فئات متصارعة بين يدي الهدف الأكبر، ألا وهو القضاء على الإسلام، وأنى لهم ذلك وقد تكفل الله بحفظه، قد ينجحون في فتنة المسلمين، ولكن لن ينجحوا أبدا في القضاء على الإسلام، ولكن ماهي أسلحتهم في ذلك؟ أقول في الجواب، الأسلحة التي تستعمل لتفريق المسلمين بعضهم عن بعض، هي أسلحة القضايا الجزئية الاجتهادية في الفقه الإسلامي، التي ولدت الإرهاب والتطرف في الدين لتمزيق شمل المسلمين، ألا ترونهم أين وصلوا بنا؟ وصلوا إلى تشكيل جماعة دخيلة أطلقوا عليها باطلا وزورا: “اسم الدولة الإسلامية”، هذه الجماعة الدخيلة التي اغتر بها بعض أبناء المسلمين، وذهبوا يحاربون إلى جانبها عن جهل ودون تبين، أضف إلى ذلك استعمالهم سلاح، إذكاء الصراع بين الشعوب الإسلامية في المحافل الدولية، وتحويلها إلى صراعات حقيقية ميدانية، هذه هي الوسائل التي يتم بها تفريق المسلمين اليوم.
فلنكن عقلاء أيها الإخوة والأخوات في مواجهة أعداء وحدتنا الترابية، واعلموا أنه لايوجد على الإطلاق في كتب التاريخ العربية والإسلامية أو الأجنبية مايسمى بالجمهورية الصحراوية أو الشعب الصحراوي لاتاريخيا ولا سياسيا، مما يعني أن الكيان المزعوم ومن يساعدهم من الخصوم يريدون اغتصاب هذا الحق قهرا أبى من أبى وكره من كره، مهما كلفهم الأمر، وهاأنتم ترون أساليبهم العدائية اليوم كيف تطورت وتسارعت، وقد أصيبوا بالسعار من أجل ذلك.
وإن مما ينبغي التذكير به بخصوص ذكرى المسيرة الخضراء، تلكم العلاقة الضاربة في التاريخ، والتي تجمع بين جنوب المغرب وشماله، ويكفي أن أذكر لكم في هذا المقام مايتصل بانطلاقة جيش التحرير بالجنوب المغربي سنة 1956م، حيث اعتبر ذلك تعبيرا قويا يجسد إرادة إمارة المؤمنين والرعية لاستكمال الاستقلال وتحقيق الوحدة الترابية قبل أن يكون للخصوم وجود سنة 1970م، وخاض هذا الجيش الذي ضم كل أبناء القبائل الصحراوية وإخوانهم المجاهدين من مختلف جهات المغرب عدة معارك ضارية على امتداد ربوع الساقية الحمراء ووادي الذهب بالصحراء المغربية، وحقق عدة انتصارات باهرة لم تجد القوات الإسبانية أمامها إلا أن تتحالف مع نظيرتها الفرنسية فيما سمي بعملية أكفيون.
ومما ينبغي التذكير به كذلك بهذا الخصوص، أنه بتاريخ 25 فبراير 1958م استقبل أمير المؤمنين محمد الخامس رحمه الله بمحاميد الغزلان، وفود وممثلي وأعيان قبائل الصحراء الذين جددوا البيعة له، وتأكد تجندهم دفاعا عن مقوماتهم المغربية العريقة، والبيعة الشرعية ميثاق شرعي لم يعرف المسلمون غيره أسلوبا معبرا عن الولاء السياسي.
أيها الإخوة الكرام، في حدث المسيرة الخضراء المظفرة، لبى المغاربة نداء الملك والوطن، وخرجوا في مسيرة سلمية سلاحهم القرآن الكريم والعلم الوطني، وحافزهم الإيمان بعدالة قضيتهم، وغايتهم إزالة الحواجز الفاصلة بين الأهل والأقارب والإخوان، الذين تجمعهم بهم وحدة العرف والعادات واللغة والتقاليد والتاريخ، ويجمعهم بهم ارتباط أسلافهم بملوك الدولة المغربية وسلاطينها، فخرج حوالي ثلاثمائة وخمسين ألف متطوع من جميع أقاليم المملكة، وأكدوا للعالم أجمع التجاوب الحاصل بين أمير المؤمنين ورعيته، وأن الجميع مجمع على تحرير الصحراء المغربية من ربقة الاستعمار، كما أكدوا أن استكمال الوحدة الترابية هدف كل المغاربة لايعلو عليه هدف آخر.
أيها الإخوة الكرام، وقد كان المؤمل أن يكون هذا التحرير للصحراء المغربية حدثا سعيدا، وبشرى طيبة لكل مسلم يؤمن بحق الإنسان المسلم في أن ينخلع عن سلطة وحكم الكافر، لكن هذا الإنجاز التحريري قد اصطدم في هذه المرحلة التي اختلت فيها القيم، بمعاكسة الإخوان والجيران، الذين سكتوا على استعمار الصحراء، ولم يسكتوا وهم يرونها تعود إلى الأرض التي اقتطعت منها، كما اقتطعت كل الأماكن التي استردها المغرب بعد جهاد طويل، ولقد انتهى بهم الأمر بعد هذه الفترة إلى الترويج لأطروحة تقسيم الأرض التي عادت إلى أهلها ليتسنى بذلك تكوين كيان وهمي جديد، ودويلة مجهرية تتاجر بالولاء، وتدين بالتبعية لمن ساعد على إنشائها .
إن الدعوة إلى تقسيم الصحراء المغربية دعوة شاذة يرفضها الإسلام، ويأباها التفكير السليم ويجانبها الصواب ويروج لها أعداء الدين، وهي بهذا لا تستند إلا إلى الرغبة في التجزئة والتوسع ولو على حساب الحق والصواب ومصير الأمة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :” من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رقبته”. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فياعباد الله،
إن الدعوة إلى التقسيم التي يدعو إليها الأعداء، دعوة ظالمة للبشر، لأن التقسيم ليس تقسيما للأرض فقط، وإنما هو تقسيم للأكباد والقلوب التي تعيش على تلك الأرض، وهو أيضا تقسيم للأسر والعشائر والقبائل والأصهار والأصدقاء، فإذا حيل بين الأخ وأخيه وأخته، وبين الأم وابنها وبنتها وبين الأقرباء، أفلا يكون ذلك عدوانا ومخالفة صريحة للدين الإسلامي ؟ روى الإمام الترمذي عن أبي أيوب رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :” من فرَّق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة” بالله عليكم ماذا سيكون جواب إخواننا في تندوف لله تعالى غدا عنده عندما يسألهم عن سبب جفائهم لأهليهم وأحبتهم كل هذه المدة الطويلة ؟ وماذا سيقول الولد لله تعالى عندما يسأله عن سبب عقوقه وسبب غيبته عن أحد والديه مدة تزيد على الأربعين سنة ؟ وقد يموت الوالد أو الوالدة ولم يسمح لنفسه بالاجتماع معهما ورؤيتهما، وماذا سيقول الأخ لله تعالى عندما يسأله عن السبب في عدم زيارة أخيه أو أخته المريضة؟ وماذا سيقول الجيران لله عز وجل غدا عنده، فعوض أن يوفقوا ويقاربوا ويجمعوا بين أهل العشيرة الواحدة تراهم يؤلبون ويتوعدون ويشتغلون في السر والإعلان من أجل ترك الأمر على حاله وفصل وطن واحد إلى جزئين؟ وكأنه ليست هناك آخرة تنتظرنا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي عن أنس:” من أصبح لا يهتم للمسلمين فليس منهم”.
أيها الإخوة الكرام، إنه عند البحث والتقصي والتفكر بإمعان في جذور هذا المشكل القائم بين أهل البلد الواحد، تجد مرده إلى ضعف الوازع الإيماني في القلوب، وتغلغل الأفكار الشيطانية بين الناس، وخاصة تلك التي تدعو إلى التفرقة والتشرذم والتشتت وعدم الانسجام وتوحيد الرؤى، وكان جديرا بنا ونحن مسلمون أبناء وطن واحد وتاريخ واحد وجغرافية واحدة، أن نضع اليد في اليد والقلب على القلب ونشمر على ساعد الجد وننافس القوى المتقدمة بدلا من المراوحة في نفس المكان كحمار الرحى، وتضييع الوقت فيما لا طائلة وراءه، فهذا عصر الاتحاد والاتحاد قوة، وعيب وعار كبير علينا وديننا الإسلامي الذي نحتكم إليه جميعا يدعونا إلى الوحدة والتماسك والتعاون وجمع الكلمة وصلة الرحم ونبذ العصبية … ونحن نسعى إلى خلاف ذلك، انظروا إلى جيراننا في أوربا، وهم ليسوا على دين الإسلام، كيف تكتلوا وتوحدوا وأصبحوا قوة عظمى بين عشية وضحاها.
إن الدول الغربية تتوحد وتتكتل وتتقوى، ونحن دول الإسلام نسعى ونساهم وندعو إلى التفرقة والتشرذم والضعف والشتات، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، واجمع شملنا بإخواننا عن قريب، وآلف بين قلوبنا وقلوبهم، واهزم بحولك وقوتك أعداء الدين وشياطين الإنس الذين يسعون إلى غير ذلك والحمد لله رب العالمين.
الدعاء.