التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم و ذكرى تقديم عريضة المطالبة بالإستقلال
الحمد لله القائل في محكم الذكر الحكيم: “لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عندتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم”، نحمده تعالى ونشكره على ما أولانا من نعم وهو العلي العظيم،
ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو رب العرش الكريم، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الممدوح بقوله تعالى: “وإنك لعلى خلق عظيم”، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمومنات. في الجمعة الماضية تكلمنا عن استقبال ذكرى مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإنه من الواجب علينا أن نتعرف على رسولنا ليتم لنا التأسي به والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم،
وإننا اليوم في أمس الحاجة إلى الجلوس خاشعين، في ظلال السيرة النبوية العطرة، لنستمع في أدب وروية إلى جانب من الجوانب المتعددة من حياة نبينا الصادق الأمين المبعوث رحمة للناس أجمعين صلى الله عليه وسلم لنجدد العهد بسيرته، ونطهر النفس من كل شائبة تتعلق بالشك في نبوته، حتى نعيش في هذه الدنيا أعزاء كرماء، ونلقى الله تعالى في دار البقاء سعداء.
وسنقتصر في خطبة اليوم على بعض الخصائص التي ميزت سيدنا محمدا من الناحية الخلقية لنعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم ونطلع على أخلاقه كيف كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أهله ومع أصحابه ومع أعدائه،بغية التأسي به.
فقد كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته ومع أهله تدل بحق وبصدق على الخلق الحسن الذي عبر عنه خادمه أنس بن مالك ض بقوله: “كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا”، فقد نشأ صلى الله عليه وسلم يتيما لم ير أباه، ومع ذلك ظل يذكر أباه عبد الله بن عبد المطلب، من كثرة ما كان يستمع إلى أمه حينما كانت تحدثه عن أبيه، وظل يذكر أمه آمنة بنت وهب التي ماتت بالأبواء عندما كانت عائدة به من زيارة قبر أبيه، وهو مازال صغيرا، ويرى في ذكرها شعورا يصل به إلى أرقى عواطف الرحمة والبر، وكان صلى الله عليه وسلم يزيد من ذكرها حينما كان مع حاضنته (أم أيمن) بركة الحبشية التي حلت محل أمه بعد وفاتها، حتى بلغ من أمره صلى الله عليه وسلم مع حاضنته أنه كان يقول عنها:”هي أمي بعد أمي”،
كما تجلى خلقه الكريم في صغره وكبره مع مرضعته وحاضنته حليمة السعدية التي كانت ترى دائما الخير بين يديه مما جعلها تعمل على بقائه عندها حتى يظل الخير وتبقى البركة في بيتها، وذلك أنه لما بعث بالرسالة المثلى جاءته حليمة السعدية مع وفد من قومها بني سعد لزيارته، فخلع لها رداءه وأجلسها عليه بجانبه، ووضع يده من تحت ثوبها على صدرها كما يفعل الصبيان دائما مع أمهاتهم، مستشعرا بذلك صلى الله عليه وسلم حنوها عليه وعطفها على جانبه،
وبعد وفاة أمه كفله جده عبد المطلب ثم لما مات كفله عمه أبو طالب الذي حافظ عليه وزاده من إكرامه مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشعر هذا الحنان، وهذه الرعاية التي أثرت في نفسه تأثيرا عميقا، الشيء الذي جعله يعترف لصاحب الفضل بفضله ويحاول رده بأفضل منه، فحينما تزوج من أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، واستقر به الحال معها ضم إليه ابنا من أبناء عمه أبي طالب وهو علي كرم الله وجهه، وبلغ من معاملة الرسول له مبلغا عظيما حتى كان أول من أسلم من الصبيان. ولم يكن صلى الله عليه وسلم يميل إلى ما يميل إليه الشباب من اللهو واللعب، بل كان من خلقه الكريم يحب العمل صغيرا وكبيرا، وقال صلى الله عليه وسلم “بعث أخي موسى وهو راعي الغنم، وبعثت وأنا راعي الغنم، وما من نبي نبي إلا ورعى الغنم”. وعمل كذلك في التجارة وكان نجاحه فيها كبيرا،
وكان صلى الله عليه وسلم أنعم الزوج لزوجاته، وذلك بسبب حسن معاشرته وبره بأهله، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”، فكان يساعد أهله في عمل البيت لما روته أمنا عائشة الصديقية عندما سئلت عن ذلك فقالت ض:”كان بشرا من البشر، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، ويعمل ما يعمل الرجال في بيته، فإذا حضرت الصلاة خرج”، وكان صلى الله عليه وسلم إذا غضب مع زوجاته لم يخرجه غضبه عن الخلق الكريم الذي تحلى به، فعن عائشة ض أنها قالت: “أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بخزيرة طبختها له، وهي لحم يقطع قطعا صغيرة ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذر عليه الدقيق، وقلت لسودة والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها، كلي فأبت فقلت لها: لتأكلن أو لأطلخن به وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الخزيرة فلطخت بها وجهها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم”، هكذا ظل صاحب الخلق العظيم يعامل أهله بالخلق الكريم إلى النهاية. قال الله تعالى: ” لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة” ولنا عودة إلى الموضوع في الجمعة المقبلة إن شاء الله تعالى فاللهم ألهمنا رشدنا واهدنا إلى اقتفاء أثر رسولنا، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبــة الثانـيـة
أيها الإخوة المؤمنون، غدا إن شاء الله تعالى ستحتفل أمتنا المغربية بذكرى من ذكريات الجهاد المرير، ذكرى 11 يناير التي ينبغي أن تبقى تاريخا لحدث عظيم يذكر الأجيال بالأمجاد، ويربط الحاضر بالماضي الذي عرف فيه المغرب كغيره من بلاد العرب والمسلمين، استعمارا غاشما جثم على أرضه واستغل خيرات بلاده واستعبد مواطنيه ردحا من الزمان، إن تاريخ 11 يناير من سنة 1944 يسجل حدثا عظيما، يخلد انبعاث الأمة المغربية من غفوتها، ونهوضها من رقدتها، ويذكرنا بشعور المسؤولين الغيورين من قادتها وزعمائها وعلمائها وساستها بأن عليهم في الحياة واجبات، وأن عليهم نحو أنفسهم ووطنهم ومجتمعهم الذي أسلم قيادته إليهم تبعات تتعلق بحرية الوطن والمواطنين، وحفظ كرامتهم أجمعين آمنين مطمئنين مستقلين لا مستعمرين مستغلين من طرف المستعمرين الغاصبين،
لقد بذل المغاربة جميعا جهودهم، عاملين بقوله تعالى: “فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين”، من أجل الكرامة والحفاظ على سلامة الأمة، وطالبوا باستقلالهم من خلال وثيقة الإستقلال التي حررها الأبناء البررة من ابناء هذا الوطن، والتي قدمت إلى جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه، فرفعها إلى المسؤولين الفرنسيين بتاريخ 11 يناير 1944، تلك الوثيقة التي مر على تقديمها 70 عاما، والتي هزت الفرنسيين وجعلتهم يفكرون في الأمر جادين، ويعلمون من خلال ما جاء فيها أن احتلالهم للمغرب، لن يدوم ولا يمكن أن يدوم ما دام الشعب قد التف حول قيادته الحكيمة الرشيدة يطالب بحقه في الإستقلال والحرية، وبذلوا في سبيل ذلك أرواحهم وأموالهم إلى أن تحقق مرغوبهم في الحصول على الاستقلال وعودة الملك الراحل محمد الخامس ومعه رفيقه في الجهاد جلالة المغفور له الحسن الثاني من المنفى مرددين قوله تعالى: “يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم، الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم.
أيها الإخوة المؤمنون، لا ينبغي أن ننسى أن المحافظة على الاستقلال تتطلب منا قمة وقاعدة أن نكون على بصيرة من أمرنا ومما يحاك ضدنا من قريب أو بعيد، محذرين أنفسنا وذوينا من ضياع ما بناه أسلافنا، وما جنيناه بعدهم من ثمار، ومما قد يصيب استقلالنا من نكسات، وما يجر علينا الإهمال وإطلاق العنان للشهوات من ويلات، يجب علينا أن ننضبط بحقيقة الإيمان والأخلاق الإسلامية السامية، وأن نلتزم بها في حياتنا العامة والخاصة ، وأن نعمل على إحياء السنة المطهرة المرضية المحمدية، ونجدد ما ضاع منها وما اندثر، وأن نتمسك جميعا بالعروة الوثقى، ونسير على المحجة البيضاء عاملين بشرائع القرآن وممتثلين لأوامر الرحمن التي دعانا ربنا إلى اتباعها كلما حلت بنا الفتن، وتداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة على القصعة،
وإن ما يجري الآن في شتى بلدان الدنيا من الفتن إلا أمثلة لما يجب أن نحذره ونتقي شره ونتعاون على درئه وإحباطه قبل انتشاره، وقبل فوات الأوان، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، قال الله تعالى: “وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون”.
وأكثروا إخواني من الصلاة والتسليم على أشرف الورى وسيد المرسلين.
الدعاء