الإسلام والحقوق الضائعة
الحمد لله تعالى الدائم العطاء والجود، الموجود قبل كل موجود، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة سيدنا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا محمد ﷺ، ملأ العلى بكماله، كشف الدجى بجماله عظمت
جميع خصاله، صلوا عليه وعلى آله، ﷺ.
ما أجمل أن نستمع إلى رجال يتحدثون عن عمهم المجاهد المناضل الثائر ضد الاستعمار، وأنتم تتحدثون عن عمكم وعمنا جميعا، تذكرت أن النبي ﷺ لما رأى عمه حمزة وقد بقرت بطنه وقطعت قطعة من كبده بكى عليه الصلاة والسلام، وقال: « إلا حمزة فلا بواكي له «، فلما سمعت المسلمات بهذه العبارة بكين على سيدنا حمزة رضي الله عنه، إني أضع يدي في يد آل البصير للبحث عن حقيقة ما وقع، وحتى يعلم الناس أن هؤلاء الذين تربوا على حقوق الإسلام لا يسكتون أبدا عن الباطل إن شاء الله.
الحق في الشريعة الإسلامية، لا بد أن نعرف أولا أن الله تبارك وتعالى لا يريد لحقوق الإنسان أن تكون نظريات فلسفية وأفكار موجودة في عقول الناس، بل أن تكون أخلاقا وواقعا يمارسه المسلم مع الله ومع رسول الله ومع نفسه، مع جاره مع ماله، في داره في منصبه، في شركته، الحقوق في الإسلام ليست عبارة عن نظريات كما يفعل الغرب، ينظر وفي والواقع يخالف، الحقوق في الشريعة الإسلامية يمارسها المسلمون، فكل مسلم اليوم يعمل لإرضاء والده ووالدته، فهو يؤدي حقهم، وكل مسلم يعمل ليعيل زوجه وأولاده فهو يؤدي حقا، وكل مسلم يخرج زكاة ماله فهو يؤدي حقا، وكل مسلم يعمل لتحرير وطنه فهو يؤدي حقا، وكل مسلم يؤدي صلاته فهو يؤدي حقا، وكل من ضيفه فهو يؤدي حقا من الحقوق التي نصت عليه الشريعة.
ومما يبين نجاح الإسلام في صياغة صورة شمولية لحقوق الإنسان، وجود أناس مسلمين يؤدون هذه الحقوق حتى صارت الحقوق سجية من سجاياهم.
وبعد طول تفكير، فقد عنونت هذه المداخلة بـ: «الحق على لسان الحق»، على لسان رسول الله ﷺ، ولذلك سأذكر مقتطفات سريعة:
عن معاذ قال: «كُنْتُ رَدِيفَ اَلنَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ لِي: يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اَللَّهِ عَلَى اَلْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ اَلْعِبَادِ عَلَى اَللَّهِ؟ قُلْتُ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّ اَللَّهِ عَلَى اَلْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ اَلْعِبَادِ عَلَى اَللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا».
فالرسول ﷺ يخبرنا أن أول حق لله تعالى على عباده أن لا يشركوا به شيئا، لا نعبد وثنا ألا نعبد بقرة، ألا نعبد عيسى عليه السلام، ألا نعبد عزير عليه السلام، حق الله أن لا نعبد إلا إياه، وإذا كنت موحدا لا تشرك بالله في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فقد أديت أعظم الحقوق.
وما أبسط أعظم الحقوق التي هي العقيدة في الإسلام، «جاء جبريل عليه السلام فجلس بين يدي رسول الله ﷺ، وقال يا محمد فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»، وفي رواية: «حلوه ومره»، فإذا آمنت بهذا فقد حلت مشكلة العقيدة، انظروا كيفية عرض النبي ﷺ، للعقيدة، وانظر كيف نعرضها نحن اليوم، عبارة عن جدل وفلسفات ونظريات، إذن الحق الأول ألا تشرك بالله شيئا، ثم إن هناك حق لك إذا أديت هذا الحق، قال عليه الصلاة والسلام على لسان الحق: «وَحَقُّ اَلْعِبَادِ عَلَى اَللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».
بعد ذلك هناك حق المسلم على المسلم، فعن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «حق المسلم على المسلم ست، قيل ما هي يارسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحَمِد الله فشمِّته، وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتبعه»، وحق النصيحة هو من الحقوق المستورة.
ولهذا أكرمني الله بعد زيارتي للزاوية البصيرية، وأنا أشعر انه دعاء قد لحقني من أحدكم إن شاء الله، فأنشأت برنامجا واسعا وجميلا، يسمى «انصحوني»، يقدم النصيحة لمن يطلبها، هذا يريد أن ينتحر، وقبل أن يقدم على ذلك يطلب نصيحة، وهذا يريد أن يتزوج، وهذا عنده مشكلة مع أهله، وهذا يريد أن يتاجر، وكان للبرنامج صدى طيبا.
وتشميت العاطس وعيادة المريض واتباع الجنائز أمور تبين أن الإسلام لا يريد من الحقوق أن تبقى مجرد نظريات عقلية، وأفكار موجودة في بطون الكتب، وإنما يريد منها أن تكون أفعالا وسلوكا واعتقادا.
تصوروا أن في الإسلام شيئا غير موجود في المواثيق الأممية، فهناك: حق الطريق، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ، قال: « إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فَأَمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ إِلا الْمَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ»، اليوم المسلمون يرون السراق في الطرقات ولا يتدخلون ولا أحد يتكلم، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، بينما حق الطريق هو كف الأذى، كم من امرأة اختطفت؟، وكم من بنت اغتصبت؟، وكم من محرم ارتكب في عرض الطريق؟، ولا يتحدث أحد، لأنهم لا يعلمون أو لم يتربوا على أن كف الأذى يعد حقا من حقوق الطريق، كذلك رد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حق متفق عليه.
كذلك هناك حق لم تتحدث عنه جميع المواثيق الدولية، وهي: العقيقة، وهي حق الطفل بأن يُفْرح بوجوده، هذه البنت التي كانت تقتل وتوؤد، وهذا الطفل الذي كان يعد عبئا على أهله، جاء الإسلام فأحدث ثورة في المفاهيم، وجاءت السنة فأنشأت العقيقة.
كذلك من كلمات الحق التي وردت على لسان الحق ﷺ، عن أنس أنه قال: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةٌ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ لَا تُسْبَقُ قَالَ حُمَيْدٌ: أَوْ لَا تَكَادُ تُسْبَقُ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ، فَقَالَ: حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَايَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ»، فكل أمر ارتفع بغير الله تعالى فإن الله يضعه، وهذا رأيناه في عصرنا هذا الذي ظهرت عجائبه، فمن كان في السجن صار في الحكم، ومن كان في الحكم صار في السجن، وظهرت معجزات النبي عليه الصلاة والسلام.
حق الجار على جاره: روى الطبراني في مسند الشاميين، والخرائطي في مكارم الأخلاق، والبيهقي في الشعب، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله ﷺ قال: «أتدرون ماحق الجار؟ إن استعان بك أعنته، وإن استنصرك نصرته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته» والجار حين يهنأ جاره لنجاح ولده فهو يؤدي حقه، كل مسلم ينتصر لجاره.
وبالمناسبة الجار المغربي وقف مع الجزائر، وسال دمه كما سال دم الشهيد الجزائري واستشهدوا معا أيام الاستعمار، والشعب والأمة الجزائرية كلها تحتفظ لملك المغرب ليس بالإمداد بالسلاح، بل حتى الإمداد بالرجال، هذا حق الجار، ولا زلت أذكر أن والدي المجاهد البطل كان يقول لي وأنا صغير: إن محمد الخامس أمر الشعب المغربي كله بالصوم، وأن يدعو الله لاستقلال الجزائر، فلما اعتقله الاستعمار الفرنسي كانت أحداث عشرين غشت في الجزائر، واسألوا التاريخ عن ما هي أحداث 20 غشت؟، فجميع الخلايا الجهادية أمروا من طرف قياداتهم أن يقوموا بمعارك في يوم واحد انتصارا للملك محمد الخامس، لأنه سجن في القضية الجزائرية، هذه حقائق التاريخ التي تربينا عليها ويستحيل أن تتغير.
إن النبي ﷺ قال: «وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته»، وكان من نتائج هذه التربية على الحقوق، أن المسلم في الأندلس كان إذا بنى بيتا لا يطليه من الخارج، وإنما يطليه من الداخل، ويذهب إلى جيرانه ويطلب منهم أن يختاروا اللون الذي سيطلي به بيته من الخارج، مراعاة لحقه في أنه هو من ينظر إلى البيت من الخارج.
كذلك من ألفاظ الحق على لسان الحق، قال رسول الله ﷺ: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف»، وهذه بشرى لكل من يريد أن يتزوج، للذكور وللإناث.
وفي المال حق: قال تعالى: ﴿وفي أموالهم حق للسائل والمحروم﴾، وقيل أن السائل هو الذي لا يملك شيئا، والمحروم هو من يملك شيئا.
وكذلك من ألفاظ الحق في شريعتنا قوله تعالى: ﴿وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان﴾، وهذا يكاد أن يكون من الحقوق الضائعة بين المسلمين، فكم طففوا في المكيال؟، وكم للتجار في هذا الباب من بطولات وغرائب؟.
كذلك من أعاجيب الحق في شريعتنا أن السفير لا يجوز أن يقتل، جاء ابن النواحة وابن أثال رسولا مسيلمة الكذاب، إلى النبي ﷺ، فقال لهما: «أتشهدان إني رسول الله؟»، قالا: «نشهد أن مسيلمة رسول الله»، فيقول عليه الصلاة والسلام: «آمنت بالله ورسوله، لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما»، وهناك جماعات مسلحة خرجت عن إجماع الأمة يختطفون المسلمين والسفراء والقناصلة ويقتلونهم، وهم موحدون يشهدون ألا إله إلا الله.
قال رسول الله ﷺ ثلاثة حق على الله أن لا يرد لهم دعوة: « الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع»، رواه البزار وأحمد في مسنده.
ومن الحقوق المستورة، حق المواطن في العدالة، وحقه في منع الظلم، وحقه في أن يقول للظالم يا ظالم، الشريعة حكمت المواطنة فسمحت للمواطن أن يقول أني مظلوم، وللظالم ياظالم، قال تعالى: ﴿وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا﴾، وفي صحيح السنة النبوية قوله عليه الصلاة والسلام: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة».
ومن أعظم الحقوق التي ينبغي أن نتربى عليها، حاكما ومحكوما حق المواطن في منع الظلم، فكثير من الشباب المسلم اليوم كلما قرأ قول الله: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾، يسقطها على الحكام فقط، وهو لا يدري بأن الحكم بما أنزل الله هو للحاكم، وللوالد، ولصاحب الشركة، وللزوج والزوجة، ولصاحب المتجر، فكل مسلم لا بد أن يحكم بما أنزل الله، وبخصوص حق المواطن أن يمنع الظلم، فلو أن كل مسلم منع الظلم، وأنا أمنع الظلم والآخر يمنع الظلم، ما يكون ظلم في بلاد المسلمين، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «أن الناس لو رأوا الظالم ثم لم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده».
الحق في الصحة: وهو حق مضمون للمسلم، قال ﷺ: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير»، قوي بإيمانه، قوي بساعده، ولذلك فأنا أفتي وأقول وأردد: من أراد أن يجاهد اليوم في بلاد المسلمين الآمنة فليبن الجسور وليبن المصانع وليبن المساكن، هذا هو جهادك اليوم، أن تكون بلاد المسلمين قوية، إذا كانت المغرب قوية والجزائر قوية وليبيا قوية والسودان قوي، وكل بلاد المسلمين قوية كان الإسلام قويا، أما إضعاف بلاد المسلمين بالمتفجرات وبالإرهاب وبالقتل وبالاختطافات هذا يؤدي إلى إضعاف بلاد الإسلام، من أراد أن يجاهد اليوم فليطلب العلم، وليطلب المال، وليبن وليصلح وليعمل على تقوية بلاد المسلمين في كل المجالات.
الحق في حماية البيئة: هل سمعت البشرية كلاما ككلام سيد الخلق الذي يقول: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليفعل».
والمحافظة على الأمن يقول الله تعالى: ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون﴾.
والحقوق التي لم نذكرها أكثر مما ذكرناه والسلام عليكم.