الأمانة (2)أمانة المجالس
الأمانة (2) أمانة المجالس
الأستاذ مولاي يوسف المختار بصير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وعد من حفظ الأمانة ورعاها أجرا كبيرا، ومدح القائمين بها، الموفين بعهد الله، وأثنى عليهم ثناء جميلا، وتوعد من أضاعها وخانها وأعد له عذابا وبيلا، نحمده تعالى حمدا كثيرا، ونشكره على فضله وإحسانه شكرا جزيلا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،نذكره ونسبحه بكرة وأصيلا، أوصى عباده بحفظ الأمانات وأدائها، فقال: “فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه”، وبين عظيم جرم التفريط فيها وخيانتها، فقال: “إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا”،ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله حث على أداء الأمانة وحذر من الخيانة فقالصلى الله عليه وسلم: “أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك”، وقال: “لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له”، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين يسارعون إلى الخيرات وترك المنكرات وأداء الأمانات، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون، في الجمعة الماضية تكلمنا عن الأمانة وأهميتها في حياة الإنسان بصفة عامة، وأنها عند المسلمين بصفة خاصة شعار الأيمان، وبرهان على صدق التحقق بمبادئ دين الإسلام، وأنها تتعلق بجميع التكاليف الشرعية والوطنية والإنسانية فيما وكل لكل واحد منا من مهام ومسؤوليات صغيرة كانت أو جساما، واليوم أيها الإخوة المؤمنون، نواصل الحيث في نفس الموضوع، لكن نتناوله من زاوية أخرى أشد خطرا، ونقول بأن ديننا الإسلامي الحنيف دين شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعاً، وما ترك لنا شاردة ولا واردة إلا بينها، بل جلاها لتكون واضحة وضوح الشمس في كبد السماء لا لبس فيها ولا غموض، ومن بين هذه الأمور التي عني بها الإسلام عناية بالغة، ونحن عنها غافلون، ولا نقدرها حق قدرها، بل ولا نعتبرها من الأمانات الخطيرة والعظمى، ألا وهي أسرار المجالس، هذه الأمانة التي بسببها تقطع الأواصر ،ويقضى على العلاقات إذا تم إفشاؤها، وبسببها تُوغر الصدور، وتؤلم النفوس، وتفقد الثقة، ويبث محلها الشك والريبة، وأن خيانة أمانة المجالس سبب لإبداء المساويء، وهتك السُتر، وفضح الأسرار، وخيانة أمانة المجالس تنتهك بسببها حُرُمات وخصوصيات، كما تمكِّن الأعداء من الرقاب، وتؤدي بالبلاد إلى الخراب، كل هذه الأمور تحصل بسبب إفشاء أسرار المجالس وعدم المحافظة على أماناتها، التي أصبحت عملة الناس يتعاملون بها، في زمان تطور وسائل التواصل التكنولوجية، والفضاءات الزرق في العالم الإفتراضي، والهواتف الذكية التي يستعملها الناس على اختلاف طبقاتهم، والتي تمكن عديمي الضمير، وسفهاء الناس من نقل خبر المجالس صوتا وصورة إلى خارج المجلس، بل وربما إلى الأعداء والحساد، في غفلة من المتناجين،
أيها الإخوة المؤمنون، إن إفشاء أسرار المجالس أو تصوير الإنسان أو تسجيل حديثه وتداوله بين الناس على مواقع التواصل الاجتماعي أو غيرها من الوسائل دون إذنه بمثابة خيانة الأمانة وتصرف مُحرم شرعًا وقانونا، وهذا السلوك أيضا انتهاك صريح للخصوصية وزرع للفتنة بين الناس وسبب من أسباب الكراهية والفضيحة سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع، فمن الواجب على كل من يغشى المجالس أن يحافظ على أمانتها وأمانة الحديث، وأن يُعود نفسه على حفظ الأسرار حتى تسود المحبة والألفة بين أفراد المجتمع، لقوله صلى الله عليه وسلم: “المجالس بالأمانة”، وقوله أيضا: “إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة”، ولقد استهان كثيرٌ من الناس في هذه الأيام بأمانة المجالس، بل إن خيانة المجالس أصبحت ظاهرة منتشرة لا يكاد يخلو منها مجلس من المجالس، فتجد الشخص يجلس مع الآخر ويتحدث معه بالحديث، وإذا به يقوم بتصويره أو تسجيل كلامه دون علمه أو إذنه، وآخر تكون له محادثة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي ك”الواتساب”، أو “الأنستاكرام”، أو حتى “الفايسبوك”، فيصورها وينشرها دون إذن منه، ومنهم من يكون سبّاقًا في نشر ذلك الحديث وإشاعته، إلى غير ذلك من الصور التي تعتبر من خيانة الأمانة، وعدم حفظ الأسرار، والأكثر من ذلك أن بعض الناس يقوم بتصوير شخص وهو يتكلم في أمر خاص أو عام ويرسله إلى شخص أو مجلس آخر بهدف الفضيحة أو السخرية أو الحط من شخصيته أمام أهله أو في عمله، ومنهم من يقوم بتسجيل حديث سواء في مجلس أو مكالمة وهو يعلم خطورة ذلك على المصالح الشخصية والاجتماعية بسوء نية، وبقصد إفساد العلاقات بين المجتمع، وهذا إلى جنب خيانة أمانة المجالس، يعتبر نوعا متحضرا من الغيبة الخفية التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم من مغبة الوقوع فيها وفي عظيم جرمها حين قال في الحديث الذي رواه مسلم: “أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته”.وقد أثر عن الحسن البصري (ح) أنه قال: “إنما تُجالسوننا بالأمانة، كأنَّكم تظنُّون أنَّ الخِيانة ليست إلاَّ في الدِّينار والدِّرهم، إنَّ الخيانة أشدَّ الخيانة أنْ يُجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا”،
فاللهم طهِّرْ قلوبنا وأحسن نوايانا واحفظ اللهم ما نُبدي وما نُخفي واحفظنا اللهم من بين أيدينا ومن خلفنا ونعوذ بك يا ربنا أن نغتال من تحتنا، جعلني الله وإياكم من القائمين بدينه الممتثلين لنهيه وأمره، وأجارني وإياكم وحفظنا من فتنة خيانة المجالس وما يدفع إليها من قول أو عمل. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون. وكما أمر الله بأداء الأمانة والمحافظة عليها، فقد نهى عن الخيانة والتخلق بأخلاق أصحابها فقال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون”، وقال صلى الله عليه وسلم: “لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد -أي يقتص- للشاة الجلحاء -التي لا قرن لها- من الشاة القرناء”، وعن ابن مسعود (ض) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها -أو قال: يكفر كل شيء- إلا الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة يوم القيامة قيفال له: أد أمانتك فيقول أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا فيقال له: أد أمانتك فيقول: أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا، فيقول الله عز وجل: اذهبوا به إلى أمه الهاوية، فيذهب به إلى الهاوية فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها فيجد الأمانة هنالك كهيئتها، فيحملها فيضعها على عاتقه فيصعد بها إلى شفير جهنم، حتى إذا رأى أنه قد خرج هوت فهوى في أثرها أبد الآبدين.”،
أيها الإخوة المؤمنون، لقد وعى سلفنا الصالح (ح) خطورة حفظ أسرار المجالس، ودأبوا على كتمانها، روى مسلمعن سيدنا أنس بن مالك (ض) قال: “أتى عليَّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأنا ألعبُ مع الغلمانِ. قال فسلَّم علينا. فبعثني إلى حاجةٍ. فأبطأتُ على أمي. فلما جئتُ قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لحاجةٍ. قالت: ما حاجتُه؟ قلتُ: إنها سرٌّ. قالت: لا تُحدثَنَّ بسرِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أحدًا. قال أنسُ: واللهِ! لو حدَّثتُ بهِ أحدًا لحدَّثتكَ، يا ثابتُ!”، وعن عبدالله بن عباس (ض) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “…. ومَنِ استَمَع إلى حديثِ قومٍ وهم له كارهونَ صُبَّ في أُذُنَيْه الآنُكُ يومَ القيامةِ”، روى الإمام أحمد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري (ض) قال: “رأيت ابنَ عمرَ يناجي رجلًا فدخل رجلٌ بينَهما فضرب صدَره وقال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: إذا تناجَى اثنانِ فلا يدخلُ بينَهما الثالثُ إلا بإذنِهما”، وقال سيدنا عمر بن الخطاب (ض): “لا يعجبكم من الرجل طنطنته، ولكن من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس، فهو الرجل”.الدعاء.