بسم الله الرحمن الرحيم
الأمانة والخيانة(1)
الأستاذ مولاي يوسف بصير
الحمد لله، الحمد لله الذي وعد من حفظ الأمانة ورعاها أجرا كبيرا، ومدح القائمين بها، الموفين بعهد الله، وأثنى عليهم ثناء جميلا، وتوعد من أضاعها وخانها وأعد له عذابا وبيلا، نحمده تعالى حمدا كثيرا، ونشكره على فضله وإحسانه شكرا جزيلا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،نذكره ونسبحه بكرة وأصيلا، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله حث على أداء الأمانة وحذر من الخيانة فقال صلى الله عليه وسلم: “أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك” صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين يسارعون إلى الخيرات وترك المنكرات وأداء الأمانات، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون:اعلموا أن الأمانة سر من أسرار الإيمان، ومهمة ملقاة على عاتق كل إنسان، من تركها ضل ومن غابت عنه غوى، وهي حمل ثقيل وأمرها أمر جليل، وثوابها عند الله جزيل، وهي عبارة عن كل ما استحفظ عليه الإنسان من حقوق، سواء كانت لله تعالى أو لخلقه من دوي الحقوق، وقد اتفقت أقوال المفسرين على أن المراد بالأمانة المذكورة في قوله تعالى: “إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا”، أنها جميع التكاليف الشرعية التي إذا قام بها الإنسان في هذه الحياة جزي على عمله جزاءا أوفى، وإذا تركها عوقب عقابا أشد وأبقى، وقد ذكر الله في هذه الآية الكريمة أنه عرض الأمانة وما يتبعها من ثواب وعقاب على السماوات والأرض والجبال وأنهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها استعظاما لأمرها، خوفا من عاقبة التفريط فيها، لما ينشأ عن التساهل بها من عذاب الله وسخطه، وإيثارا للعافية وبعدا عن التبعة والمسؤولية، وحملها الإنسان بما فيها من مسؤولية عظيمة وخطورة بالغة جسيمة، فانقسم الناس بعد هذا التحمل إلى ثلاثة أقسام: قسم التزم بها ظاهرا وضيعها باطنا وهم المنافقون والمنافقات الذين يظهرون الإيمان خوفا من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله، قال تعالى: “وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون”، وقسم ضيع هذه الأمانة ظاهرا وباطنا وهم المشركون والمشركات الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة رسله سواء، وقسم حفظوا هذه الأمانة ظاهرا وباطنا وهم المؤمنون والمؤمنات الذين اتصفوا بالإيمان ظاهرا وباطنا.فالقسمان الأولان معذبان والقسم الثالث مرحوم وهذا معنى قوله تعالى: “ليعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما”.
أيها الإخوة المؤمنون: إن الأمانة تشمل كل ما أوجبه الله على عباده بواسطة كتبه وأنبيائه، فالصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، والحج أمانة، والطهارة للصلاة أمانة، وكل واجبات الدين أمانة يجب الوفاء بها والإهتمام بأدائها، كما أن ترك المحرمات أيضا أمانة، والودائع والعواري التي عندك للناس أمانة، والشركة التي بينك وبين أخيك أمانة، والأعمال التي تتولاها من شؤون المسلمين أمانة، وسر أخيك لك أمانة، والمكالمات الهاتفية أمانة، وأخبار المجالس أمانة، وأسرار المهنة والوظيفة أمانة، فالسلطان يتحمل أمانة، ونائب السلطان يتحمل أمانة، والقاضي ومن في حكمه يتحمل أمانة، والعالم والمدرس يتحملان أمانة، والتاجر في متجره والصانع في مصنعه يتحملان أمانة النصح في المعاملات وعدم الغش والخداع وتجنب المكاسب المحرمة، والموظف في مكتبه يتحمل أمانة، والجندي والحارس يتحملان أمانة، والرجل في بيته، والمرأة في منزلها والولد في مال أبيه، والطالب في الجامعة و الثانوية، والطبيب في عيادته، والجراح في قاعة العمليات، والمهندس والبناء وكل من ولي من أمور المسلمين شيئا فهو يتحمل الأمانة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له”، وكل سيسأل عن أمانته فيثاب إن حفظها ورعاها حق رعايتها، ويعذب إن ضيعها وفرط في مسئوليته اتجاهها يوم يقول معاتبا لنفسه عن تفريطه في الأمانات التي تحملها: “أين المفر؟ كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر”، جعلني الله وإياكم من القائمين بدينه الممتثلين لنهيه وأمره، وأجارني وإياكم من فتنة المال وشره، وحفظني وإياكم من خيانة الأمانة وما يدفع إليها من قول أو عمل. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون، لقد أمر الله بأداء الأمانة في آيات من الذكر الحكيم فقال: “فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه”، وقال عز من قائل: “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها”، وقال صلى الله عليه وسلم: “على اليد ما أخذت حتى تؤديه”، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمانة من صفات المؤمن فقال: “آية المؤمن ثلاث: إذا حدث صدق، وإذا اؤتمن أدى، وإذا عاهد وفى”، وهذه الأدلة القاطعة من الآيات البينات والسنة الواضحة تدل على أن أداء الأمانة واجب محتم لا يجوز التساهل فيه، فيجب على الوالي أن ينصح لرعيته ويجب على القاضي أن يعدل في حكمه، ويجب على المدرس أن يخلص في تعليمه ويكون قدوة صالحة لطلابه وتلاميذه في جميع تصرفاته، ويجب على الموظف أن يؤدي العمل الذي أنيط به، فيحفظ وقته ويرتب أعماله ويستقبل مواطنيه وينهي طلباتهم في الأجل المحدد لديه، ولا يحابي قريبا أو صديقا، أو يقدم أحدا على أحد بغير حق، أو يضيع وقت العمل في غير عمله، وأعظم من ذلك إذا امتنع من إنجاز بعض الخدمات حتى يدفع صاحب الحاجة شيئا من المال، أي الرشوة، وبذلك يجمع على نفسه جريمتين عظيمتين: جريمة الخيانة في العمل، وجريمة أكل المال الحرام.وفي الحديث: “إذا لم تستحي فاصنع ما شئت”. ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الجمعة المقبلة إن شاء الله، وإلى ذلك الحين أوصي نفسي وإياكم بوصية رب العالمين الذي يقول: “إن الله وملائكته يصلون على النبيئ، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما”. الدعاء