اتباع الهوى: تجلياته ومفاسده، والوسائل التي تعين على تركه
اتباع الهوى: تجلياته ومفاسده، والوسائل التي تعين على تركه
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم:” فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ”، يظهر من خلال هذه الآية أن الإنسان إن لم يكن مستجيباً لله ولرسوله فهو متبع للهوى، وليس هناك منزلة بين المنزلتين، وأخرج الإمام الطبراني في الأوسط، والإمام البيهقي في الشعب عَن أَنَس رضي الله عنه أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء برأيه».
أيها الإخوة الكرام، إن من أهم العوائق الكبرى التي تحول بين الإنسان وبين تحصيله تقوى الله عز وجل اتباع الهوى، ويعد اتباع الهوى من مساوئ الأخلاق وقبيح الخصال، ومن أخطر أمراض العصر، فهو داء عضال ومرض فتاك، يفتك بالدين والقيم والأخلاق، داء انتشر بين الناس منذ القِدَم، فما معنى اتباع الإنسان لهواه؟ وماهي تجلياته في حياتنا اليومية؟ وماهي مفاسده؟، وماهي الوسائل التي تعيننا على تركه؟
أيها الإخوة الكرام، اتباع الهوى هو ميل النفس إلى الشيء، أو ميل الطبع إلى ما يلائمه، والهَوَى محبةُ الإِنسان الشيء وغَلَبَتُه على قلبه، واتباع الهوى هو السير وراء ما تهوى النفس وتشتهي، أو النزول على حكم العاطفة من غير تحكيم العقل أو الرجوع إلى شرع أو تقدير لعاقبة، قال الإمام الشعبي رحمه الله:” إنما سمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار”.
ويجب أن نعلم علم اليقين أن الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده، إن وقع في الزهد أخرجه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في القسمة أخرجها إلى الجور، وإن وقع في العبادة أخرجها عن أن تكون طاعة وقربة، ويجب أن نعلم علم اليقين كذلك أن من أهم مداخل الشيطان على ابن آدم مدخل باب الهوى، إنه يطوف بالإنسان ليعلم نقطة ضعفه، حتى يدخل عليه من هذه النقطة، فيفسد عليه دينه ودنياه وآخرته.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة يحذرنا فيها ربنا سبحانه وتعالى من اتباع الهوى وطاعة أصحاب الأهواء. قال ابن عباس رضي الله عنه:” ما ذكرَ الله هوىً في القرآن إلا ذمّه، قال تعالى:” أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ”، قال قتادة رحمه الله تعالى:” إن الرجل إذا كان كلما هوي شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى، فقد اتخذ إلهه هواه”. ومن استسلم لله وانقاد له بالطاعة، وأسلم وجهه لله، ووقف عند حدود الله فقد اهتدى، ونال الدرجات العلى، قال تعالى: “وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى”، وأما من أتبع نفسه هواها، فإن عاقبته الهلاك، وذلك أن المعاصي كلها منشأها من تقديم الهوى على الشرع، قال تعالى: “فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى”.
أيها الإخوة الكرام، في اليوم الواحد نتعرض لعشرات بل مئات المؤثرات، هذه المؤثرات تحتاج إلى ردود أفعال، ورد الفعل عندنا إما أن يكون منطلقاً من الحق، وإما أن يكون منطلقاً من الهوى، فإذا طلب منا إنسان حاجة، فإما أن ننصحه نصيحةً صادقة، وإما أن نوجهه لشيء ليس في مصلحته، لكنه في مصلحتنا، فنحن دائماً في ردود أفعال على المؤثرات، إما أن نتبع الهوى فنسقط من عين الله، وإما أن نتبع الحق فنكبر في عين الله، إما أن نتبع الهوى فيكون هذا الاتباع خطوة إلى النار، وإما أن نتبع الحق فيكون هذا الاتباع خطوةً إلى الجنة.
دققوا في جميع علاقاتنا مع الغير، فكل علاقة، وكل سؤال، وكل أثر يحتاج منا إلى رد فعل، إلى موقف، في كل ما نتصرف به قبل أن نقول كلمة، قبل أن نتحرك، قبل أن نغضب، قبل أن نحلف اليمين، قبل أن نصل، قبل أن نقطع، قبل أن نعطي، قبل أن نمنع، قبل أن نفعل شيئاً، قبل أن ننطق بكلمة واحدة، دققوا جيدا هل هذا الموقف اتبعنا فيه الهوى ؟ هل انحزنا انحيازاً أعمى لأبنائنا أم اتبعنا الحق وبحثنا عنه ؟
أيها الإخوة الكرام، شيء آخر، الإسلام – وهذه حقيقة أساسية فيه – لا يعتد بالتجمل الظاهري إلا إذا قام على نفس طيبة، وقلب سليم، وضمير مستنير، يهدي صاحبه إلى الصراط المستقيم، معظم الناس يجملون مظاهرهم، يجملون بيوتهم، يجملون أماكن علمهم، يجملون ثيابهم، يجملون مركباتهم، ولكن حقيقة الإسلام أساسها أن تجمل قلبك، أن تطهر هذه النفس من الشهوات، أن تطهرها من الأدران، بمجاهدتها والإقبال على الله عز وجل، فالإنسان يعيش بقلبه، ويعيش بمشاعره، ويعيش بنفسه، وإصلاح النفس لا يكون بتجاهل عيوبها وسترها، إنما يكون بتطهيرها من داخلها عن طريق المجاهدة والاتصال بالله، قال تعالى:”وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ “، وباطن الإثم ينبغي أن تتركه، كل الوساوس والخطرات والنوايا التي لا ترضي الله، واعلموا أن الله جلّ جلاله لا يهب الصفاء ولا النقاء ولا المعرفة ولا الحكمة، إلا لمن سلك طريق تزكية نفسه في شؤونه كلها، فلا يكفي أن نقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هذا التعوذ لايجدي نفعا إلا إذا كان مقاوماً لإغراء الشرِّ، مدافعاً للسيئات، صاحبه دائم التحليق في معاني العبادة، أما إذا قلنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ونحن في الأرض نتبع الهوى فهذا ضرب من التناقض، ينبغي أن نكون كالجبل الشامخ إيماناً وعزيمةً وإرادة، وعندئذ وساوس الشيطان لا تستطيع أن تصل إلينا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد فياعباد الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام الترمذي عن شداد بن أوس:” الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني”، وأخرج الإمام البخاري في كتاب الرقائق، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” تعس عبد الدرهم والدينار، تعس عبد البطن، تعس عبد الفرج، تعس عبد الخميصة”
أيها الإخوة الكرام، بقي أن نعرف الأمور التي تعيننا على ترك الهوى، وإن مما يعيننا على ذلك، العزيمة والإرادة القوية التي ينبغي أن تكون لدينا، علاوة على طاقة من الصبر، تحملنا على تجرع المرارة ساعة الإغراء، فالهوى له إغراء، والمال له إغراء، والنساء الفاسدات لهن إغراءات…
ومما يعيننا على ترك طريق الهوى أن نلاحظ العاقبة، إن لم نلاحظها فينا، نلاحظها في غيرنا، بطرح الأسئلة التالية: ماذا ينشأ عن اتباع الهوى؟ كم فوت اقتراف المعاصي من فضل كبير كان من الممكن أن نناله؟ كم أوقعت المعاصي في رذائل قبيحة مريرة ؟ وكم من لذة فوتت لذات، وكم من شهوة كسرت جاهاً، ونكست رأساً، وقبحت ذكراً ، وأورثت ذماً، وألزمت عاراً لا يغسله الماء، غير أن عين الهوى عمياء كما يقال. ومن هوى فقد هوى.
أيها الأخوة الكرام ؛ مما يعيننا على ترك طريق الهوى أن يتصور الإنسان غيره من الناس، كيف اتبعوا الهوى فسقطوا، وكيف انتهت أعمارهم، وخُتمت أعمالهم، وانتقلوا إلى محاسبة ربهم، وكيف أن النار تنتظرهم إلى أبد الآبدين، تأملوا فيمن حولكم، هؤلاء الذين اتبعوا الهوى، وحادوا عن طريق الحق، ألم يموتوا ؟ ماذا بعد الموت ؟ ماذا في القبر ؟ ماذا بعد القبر ؟ القرآن يخبرنا أن هناك حياة البرزخ، فإما أن نكون في روضة من رياض الجنة وإما أن نكون في حفرة من حفر النيران.
ختاما، وما دام في العمر بقية، فكل شيء يمكن إصلاحه، لنا أن نتوب توبةً نصوحاً، لنا أن نكفر عن السيئات السابقة، لنا أن نؤدي الحقوق إلى أصحابها، لنا أن نصطلح مع الله، لنا أن نفتح مع الله صفحة جديدة فالله يغفر، والله يقبل والله يعفو، قال تعالى:”قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ “، أسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل، وأن يزكي أنفسنا فهو خير من زكاها، أمين، لهذه الخطبة تتمة سنأتي عليه في خطبة لاحقة، والحمد لله رب العالمين.
خطبة الجمعة ليوم الجمعة 18 محرّم 1440هـ الموافق لـ 28 سبتمبر 2018 بمدينة برشيد، للدكتور مولاي عبد المغيث بصير