إصدار جديد للدكتور الجيلالي كريم بعنوان: “الطريقة المريدية بالسنغال تاريخ وتعريف”

توطئة

تعتبر القادرية والتجانية والسنوسية من كبريات الطرق الصوفية التي انتشرت بشكل واسع في المجال الإفريقي، وإلى هذه الطرق وغيرها يرجع الفضل في انتشار الإسلام في هذا القطر من الأرض، لكن تفرعت منها الكثير من الطرق التي استطاعت إثبات وجودها في هذا المجال، منها ما سار على نهج الطريقة الأم، ومنها ما حاد عنه متخذا لنفسه نهجا خاصا، وفي كل مرة كان الشيخ المؤسس يترك بصماته على الفرع الجديد، إما بتغيير اسم الطريقة، أو تغيير تقاليدها الصوفية، أو سن أوراد جديدة أو غير ذلك.

ومن بين أهم هذه الطرق التي انتشرت في الغرب الإفريقي خاصة بالسنغال، هناك الطريقة المريدية التي أسسها الشيخ أحمد بامبا الشهير بخادم الرسولrخلال القرن التاسع عشر الميلادي،والتي كانت في بدايتها مجرد فرع من فروع الطريقة القادرية، لكنها انفصلت عن الأصل وكونت لنفسها إطارا خاصا أصبحت من خلاله تنافس هذه الطرق، بل إنها أصبحت الطريقة الرسمية لعدد كبير من السنغاليين أواخر القرن 19م وبداية القرن 20م، بعدما نجحت في استقطاب العديد من الأتباع، واقتحام المجال الروحي للطرق الصوفية التقليدية هناك.

ظهرت هذه الطريقة في وقت عصيب طبعه انتشار البدع والخرافات والجهل بين العامة والخاصة، فأما العامة فانزاحوا بجهلهم عن الطريق اللاحب، وانتشرت بينهم مساوئ الأخلاق وكل أنواع المثالب، وفي أوسـاط الخـاصة “تسمى كثير من العلماء والشيوخ بأسمـاء الشيوخ الأجلاء والعلماء الكبار، وتقمصوا بلباسهم وقصدهم متاع الدنيا وزخارفها، فاستمالهم الملوك والأجانب واستخدموهم في أغراض منافية للدين من شعوذة وسحر وقضاء جائر، فتحول الدين إلى تقاليد وعادات مشوهة تمارس في الزواج والختـان والمآتم، ويلعبون بالقرآن ويصوغون منه أناشيد يرددونها في الحفلات الشعبية”[1].

هذا الوضع جعل الكثيرين يتوهون عن جادة الطريق، وزاد توغل الاستعمار داخل البلاد السنغاليةالطين بلة، من خلال سعيه إلى غزومختلف الشرائح المجتمعية فكريا وثقافيا وحضاريا وحتى دينيا، مما شكل عبئا إضافيا على كاهل المصلحين وعلى المنظمات والجماعات التي تسعى إلى الحفاظ على لحمة هذا المجتمع دينيا وثقافيا وتراثيا وعلى رأسها الجماعات الدينية والصوفية التي ازداد الإقبال عليها بعدما تبنت دور المنقذ من الضلال، والضامن لوحدة الأمة من التفسخ والانحلال.

في هذا الجو الموبوء ظهرت الطريقة المريدية، وحملت إلى جانب مثيلاتها من الطرق الصوفية مشعل الإصلاح بالبلاد، وتبنت مشروع حماية وإنقاذ المجتمع من الفساد، وجاءت بمنهج تربوي تجديدي “يجمع بين القديم الراسخ والجديد النافع، يحتفظ بالثوابت ويجدد فيالمتغيرات، يبقي الغايات ويغير في الوسائل، غايته بناء شخصية مسلمة متكاملة قادرة على الصمود والتحدي أمام كل تيار جارف وتجاه كل غزو عارم”[2]

ونظرا لهذه الإسهامات المعتبرة التي قدمتها الطريقة المريدية للإسلام والمسلمين عموما وللسنغاليين على وجه الخصوص، ارتأيت أن أعرفها للقارئ -وإن كانت أشهر من أن تعرف-، وأن أقدم جزءا من تاريخها من خلال عرض حياة ومجهودات شيخها المؤسس أحمد بامبا الشهير في الأوساط الإفريقية بخديم الرسول r،والتطرق إلى ظروف وموطن نشأتها، وتاريخ تأسيس وإعلان هذه الطريقة وظهورها وعوامل انتشارها،وتوضيح أهم خصائصها وسماتها، مع إعطاء نبذة تعريفية عن شيوخها منذ تأسيسها إلى يومنا هذا.

بقي أن أشير في ختام هذه التوطئة إلى أن هذا العمل يأتي كمقدمة لأعمال أخرى ستنجزها مؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام عن الطريقة المريدية وشيوخها، وذلك للعلاقات الوطيدة الطيبة التي تربط بين الزاوية البصيرية والطريقة المريدية من جهة، ومن جهة ثانية تفعيلا لبنود الشراكة العلمية التي تجمع بين المؤسستين المذكورتين، حيث اقترح الشيخ إسماعيل بصير خادم أهل الله بزاوية جده الشيخ سيدي إبراهيم البصير بني اعياطإقليم أزيلال بالمملكة المغربية،ورئيس مؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام إنجاز دراسات وبحوث علمية حول الطريقة المريدية، فضلا عن تحقيق مخطوطات لشيوخهاالمبجلين وعلمائها المقتدرين.

ولا يفوتني في هذا المقام أن أتوجه بالشكر الجزيل إلى كل من ساعد من قريب أو بعيد على إنجاز وإخراج هذا العمل إلى النور، وأخص بالذكر بعض الطلبة السنغاليين من أتباع ومريدي الطريقة الذين يتابعون دراساتهم بالمملكة المغربية، والذين زودوني بعدد مهم من المصادر والدراسات التي تعنى بتاريخ هذه الطريقة، مصادر ومراجع أفادتني كثيرا لاسيما في دحض بعض الاتهامات والأحكام الجاهزة التي ألصقتها الكتابات الاستعمارية بالطريقة المريدية وشيخها.

كما أتقدم بجزيل الشكر والعرفان، وعظيم التقدير الامتنان، لمؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام التي تبنت نشر هذا العمل، منوها بالدور الكبير الذي تقوم به في مجال التثقيف والتنوير ونشر العلم والمعرفة، سواء من خلال نشر الكتب والدراسات، أم من خلال عقد اللقاءات والندوات، سائلا الله العلي القدير أن يوفق ويجزل مثوبة القائمين عليها، وأن يجعل هذا العمل في مستوى تطلعات القارئ. والله الموفق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- انظر البحث الذي أعده مجموعة من الباحثين (محمد المنـتقى جتر بمـعاونة خادم سيـلا، وعافية أحمد انيانغ، وخادم امبـاكي شيخ، وامباكي عبد الودود) تحت عنوان: المريدية : حقيقتها ومبادئها، محاضرات دائرة روض الرياحين، طوبى، 1430هـ/ 2009م، ص 5.

[2] المرجع نفسه، ص 7.

مقالات مماثلة

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *