إصدار جديد: الطبعة الثانية من كتاب “التعريف الشمولي بالإمام الجزولي”
صدرت أخيرا عن الزاوية البصيرية الطبعة الثانية من كتاب “التعريف الشمولي بالإمام الجزولي” لمؤلفه الدكتور عبد المغيث بصير،
الذي سعى في هذه الدراسة الوافية تقديم تعريف شمولي عن الإمام الجزولي وكتابه “دلائل الخيرات”، وهذه مقدمة الطبعة:
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الكائنات، وعلى آله وصحبه أصحاب الرتب العاليات، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فبعد أن منَّ الله علي ووفقني لجمع هذا الكتاب وطبعه حول الإمام العارف بالله سيدنا أبي عبد الله محمد ابن سليمان الجزولي رحمة الله عليه، صاحب الكتاب الذائع الصيت “دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار”، وبعد نفاذه من المكتبات منذ زمن طويل، وكثرة الطلب عليه من جملة من الأحباب داخل المغرب وخارجه، أضف إلى ذلك توصلي بتهاني واستحسان وإعجاب جمع من العلماء العاملين في مختلف البلاد مشرقا ومغربا الذين اطلعوا على فحواه، وأبدوا رضاهم وقبولهم لما تضمنته دفتاه، علاوة على كونه صار مرجعا أساسيا للباحثين في التصوف عموما، وفي الطريقة الشاذلية الجزولية خصوصا.
كل هذا وغيره كثير؛ جعلني أفكر جديا في إعادة مراجعة الكتاب وتصحيحه، وإضافة ما يمكن إضافته من الفوائد واللطائف المتعددة، سواء فيما يتعلق بحياة الإمام الجزولي رحمه الله، أم ما يتصل بالدراسة المستوفاة حول كتابه، حيث أعدت النظر في متن دلائل الخيرات، ودققت من جديد في مطابقته للنسخة المعتمدة.
أحب في مقدمة هذه الطبعة، ومن باب التحدث بالنعمة، أن أبوح بشيء للقارئ الكريم ليشاركني قصتي مع هذا التأليف، ذلك أنه في بداية سنة الألفين من الميلاد؛ عندما كنت طالبا في الدراسات العليا بدمشق الشام -فرج الله عن أهلها في قريب-، وفقني المولى عز وجل لحضور مجالس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تقام في العديد من المساجد صباحا ومساء بدمشق، وكان من عادة أهلها في هذه المجالس أن يقرؤوا شيئا من كتاب دلائل الخيرات، ولكنهم في الوقت نفسه يتساءلون عن سيرة صاحب الكتاب، ولطالما استوقفني أحدهم بحكم انتمائي لبلاد المغرب ليسألني عما إذا كنت أعرف أحدا ألف تأليف وافيا شاملا حول سيرة الإمام الجزولي، فقلت لنفسي لم لا أكون أنا ذلك الرجل؟.
فعقدت العزم سنة 2002م على جمع المادة العلمية المتعلقة بهذا الموضوع، ووجدت الأمر متيسرا أكثر مما كنت أتوقع، وأدركت حقا بأن الاشتغال على كل شيء متصل بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم له بركة خاصة، وصدق الإمام البوصيري رحمه الله عندما قال:
قَلَمَّا حَاوَلَتْ مَدِيحَكَ إِلاَّ * سَاعَدَتْهَا مِيمُ وَدَالٌ وَحَاءُ
والحق أقول، إني ما تجاوزت في عملية تحريره ثلاثة أشهر على الأغلب، وقدر في ذلك العام أن يخبرني فضيلة الشيخ الوالد سيدي محمد المصطفى بصير رحمه الله بنيته القيام بعمرة في رمضان، فعزمت على لقائه هناك حاملا معي الكراسة التي دونت فيها الكتاب لأطلعه عليه، لأني كنت جد متأكد بأن ذلك سيدخل عليه سرورا كبيرا، وكيف لا وهو الذي ألف في الصلاة على رسول الله كتابا نفيسا جعله عليه وردا مؤكدا، يختمه كل جمعة، وله في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الباع الطويل، وسبق لي تسجيل بعض تجليات محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مقدمة كتابه المطبوع بعد وفاته، والذي اخترت له عنوان: “صلوات الشيخ محمد المصطفى بصير على الرسول سيدنا محمد السراج المنير”.
ولعل الطريف في هذه القصة، أنه عندما كنت جالسا مع الوالد رحمه الله في المسجد النبوي بالمدينة المنورة،- على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم-، وبعد اطلاعه على مسودة الكتاب وإبداء احتفاله به بسويعات قلائل، إذا برجل من كاشمير الهند يدعى الشيخ معروف، – أحد أحبة الشيخ الوالد، زاره مرارا وتكرارا بالزاوية البصيرية ببني اعياط، مشهور بمحبته لكتاب دلائل الخيرات-، يجلس إلينا دون موعد ودون سابق معرفة منا بوجوده ذلك العام في العمرة، إذا به يسأل الشيخ الوالد: هل يوجد أحد في المغرب ألف تأليفا شاملا حول سيرة الإمام الجزولي؟، لأن الكثير من الناس في الهند يحفظون الدلائل ويقرؤونه ولا يعرفون شيئا عن حياة الجزولي، فقال لي الشيخ الوالد: قم يا ابني إن كتابك هذا مأذون، واخرج مع الرجل إلى الشارع وابحث عن أصحاب الآلات الناسخة، وناوله نسخة من الكراسة، وهكذا تم أن وصلت منه نسخة بخط يدي إلى الهند قبل طبعه، وأذنت للشيخ معروف بطبع الكتاب هناك، وأخبرني بعد ذلك بأنه تمت ترجمته للغة الأردية.
وبعد عودتي لبلاد الشام، رأيت فيما يرى النائم وكأني في وسط حشد عظيم من الناس، اجتمعوا ليتكلموا عن الإمام الجزولي وكتابه دلائل الخيرات، وأذكر أني كنت أجلس في الصفوف الخلفية، وكان المقدم لفقرات الحفل في كل مرة يقدم أحدهم ليتكلم عن الإمام الجزولي، وقال في الختام: سأقدم لكم السيد عبد المغيث بصير، الأستاذ الذي أجاد وأفاد في التعريف بالإمام الجزولي ليتكلم لنا عنه، فقمت أشق الصفوف إلى أن اعتليت المنصة، وحمدت الله وصليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرعت أخطب في الجمع أتكلم عن العارف بالله الإمام الجزولي، ولم أشعر إلا أن استفقت من النوم وعبارات التعريف بالإمام الجزولي تخرج من فمي.
وليعلم القارئ الكريم بأني لست ممن يحتفل بالرؤى أو ممن يعطيها أكثر من حجمها، وما كنت أبغي تسجيل هذه الرؤيا هنا، لولا غلبة ظني أنها قد تكون من باب الرؤيا الصالحة التي أكرمني الله بها، وما حصل من تأييد رباني وقبول وذيوع انتشار لهذا الكتاب وكثرة الطلب عليه، زاد من ترسيخ هذا الأمر لدي، ولا مجال أيضا لإنكار الرؤيا الصالحة الصادقة التي يراها المؤمن أو ترى له، قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» 1.
أعود فأقول: إنه بعد طبع الكتاب ونشره بسوريا والمغرب سنة 2005م، اتصل بي أحد الأحبة من فرنسا يرغب في ترجمته للغة الفرنسية فأذنت له في ذلك، وعلى هذه الترجمة تمت ترجمته للغة الإيطالية من قبل أحد المحبين، وحدث أن زارنا في مقر الزاوية أحد العلماء الأفذاذ من بلاد السودان وهو العلامة حامد عبد الرحمن الحمدابي، عضو المجلس القومي للذكر والذاكرين، وطلب مني الإذن له في طباعة الكتاب ببلاد السودان، فأذنت له.
ونظمت الرابطة الوطنية للطريقة الجزولية بالمغرب، الملتقى الثاني لأهل دلائل الخيرات بالمغرب بمدينة مراكش في مارس 2013م، واستدعاني مشكورا الأمين العام للرابطة السيد عبد الرحمن الصويكي حفظه الله لأتقدم بمداخلة حول الإمام الجزولي، وشاركت معهم، كما استدعيت لعدة لقاءات أخر وبرامج تلفزية للكلام عنه، واعتبرت ذلك -والله أعلم – تمام تأويل الرؤيا التي قصصتها آنفا.
وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على استمرارية شهرة كتاب “الدلائل” وتعلق الناس به، تلك الشهرة التي تعم العالم الإسلامي كله من شمال إفريقيا حتى إندونيسيا، فبفضل الإمام الجزولي رحمه الله وكتابه “دلائل الخيرات” سيستمر ذكر المغرب والمغاربة في كل الأصقاع إلى قيام الساعة، وبخاصة لدى العلماء العاملين والمحبين في الجناب المحمدي صلوات الله وسلامه عليه، وسيضلون يشهدون لأهل المغرب بتفانيهم في محبة رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وكيف لا وأهل المغرب مشهود لهم بكثرة ذكره صلى الله عليه وسلم، وتصليتهم عليه، سواء في العبادات كما هي فرض وواجبة أو في العادات، وهي عنوان محبة سارية وحضور دائم، ففي المغرب تسمع عبارة “الصلا على النبي” من العامل حين ينجز عمله ومن الصانع لما يكمل صنعته، وترى الحصادين في الحقول والبنائين في الأوراش والذين يحملون أو يدفعون الأثقال يجهرون بقولهم: ” اللهم صل عليك أرسول الله”، ويرددونها التماسا لبركتها في العون على التحمل، وتيمنا بها في تقوية العزيمة، ولايكاد يخلو عمل من أعمال المغاربة اليومية ولا مناسبة من مناسباتهم الظرفية من التبرك بالتصلية على النبي الكريم، ولا أدل على ذلك من صيغة التصلية التي تقال في المغرب عند زفاف العروسين أو بروزهما وهي: ” الصلاة والسلام عليك أرسول الله ياجاه النبي”، ومما يدل على هذا أيضا عبارة “صل على النبي”، التي تسمع في الأسواق والشوارع والتجمعات عندما يقع جدال حول أمر من الأمور، ومن مظاهر محبة المغاربة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم أكثر المسلمين تسميا بأسمائه وصفاته، ولاشك أن هذا كله إنما هو ثمرة من ثمرات التراكم المتمثل فيما أنتجه أهل العلم بالمغرب من مصنفات في السيرة النبوية، وفيما قرضوه من مدائح في ذاته المحمدية، وفيما نظموه من أراجيز في آياته الباهرة، وفيما وجهوه من رسائل إلى الروضة الشريفة، وفيما أبدعوه من موالد متنوعة، وفيما حبروه من صيغ مختلفة في التصلية على خير الخليقة 2
أخيرا؛ لقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه (مرفوعاً) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» 3، وبذلك أغتنم هذه السانحة المحجلة لأسجل شكري الجزيل وأنبل أحاسيس الوفاء والامتنان، مع الاعتراف بالجميل لأخي فضيلة الشيخ خادم الطريقة البصيرية سيدي اسماعيل بصير حفظه الله، وذلك على رعايته الكريمة وعنايته السابغة، ودعمه المادي والمعنوي وتشجيعه ليخرج هذا الكتاب في هذه الطبعة الثانية على هذه الحلة البهية، فجزاه الله خير الجزاء وأحسنه، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في حياته وفي علمه وعمله، وأن يبقيه جلا وعلا في خدمة المصلحة العامة.
وأختم بالدعاء لرائد العلم وراعي العلماء وأهل الله، وحامي حمى الملة والدين سيدنا الإمام، أمير المؤمنين جلالة الملك مولانا محمد السادس حفظه الله تعالى ونصره، سائلا المولى عز وجل أن يقر عينه بولي عهده الجليل مولاي الحسن وسائر أفراد الأسرة الملكية الشريفة، إنه سميع الدعاء، وأسأله عز وجل بجاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبجاه محبيه وبجاه المصلين والمسلمين عليه آناء الليل وأطراف النهار؛ أن يحفظ بلادنا المغربية من كل سوء ومكروه، وأن يعرفنا نعمه بدوامها علينا وأن لا يعرفنا إياها بزوالها وأن يزيدنا معرفة به وبرسوله آمين، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه عبد المغيث بصير
في برشيد يوم الأربعاء 04 جمادى الثانية 1436هـ الموافق لـ 25مارس 2015م.
———————-
الهوامش:
1 – رَوَاهُ البخاري (6989) من حديث أبي سعيد ، ومسلم (2263) من حديث أبي هريرة.
2 – ينظر كتاب :”المصنفات المغربية في السيرة النبوية”، للدكتور محمد يسف، بتصرف
3 – رَوَاهُ الإمام أَحْمَدُ (7755)، وَأَبُو دَاوُد (4198)، وَالتِّرْمِذِيُّ- صحيح الجامع- (1926)، والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان والطيالسي، وهو حديث صحيح.