إتباع الهوى، مفاسده، وكيف تكون النجاة منه

إتباع الهوى، مفاسده، وكيف تكون النجاة منه

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.

أما بعد فيا عباد الله، قال الله تعالى في كتابه الكريم:” فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى”، وورد في الأثر كما نقله العلامة القرطبي رحمه الله مرفوعا، قال: قال: أبو أمامة: “سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى”.

أيها الإخوة الكرام، في خطبة ماضية تطرقنا إلى إحدى أهم العوائق الكبرى التي تحول بين الإنسان وبين تحصيله تقوى الله عز وجل وهي اتباع الهوى، فعرفنا معنى الهوى، وتعرضنا لبعض تجلياته في حياتنا اليومية، والوسائل التي تعيننا على تركه، وبقي لنا أن نعرف أهم مفاسد اتباع الهوى، وكيف تكون النجاة منه؟

أيها الإخوة الكرام، اعلموا بداية أن أكبر عدو للإنسان هو هوى نفسه، لأنه يعتبر عدوا داخليا، والعدو الداخلي أقوى من العدو الخارجي، وصدق من قال: “إن مشاكلنا مع أنفسنا تتعدى بكثير مشاكلنا مع أي مخلوق آخر”، وتبعا لذلك فمتبع الهوى لاحكَمَةَ له ولا زمام ولا لجام، ولا قائد له ولا إمام، إلهه هواه، حيثما تولت مراكبه تولى، وأينما سارت ركائبه سار، يتحقق فيه قوله تعالى: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ”، قال عبد الله بن عون البصري رحمه الله: “إذا غلب الهوى على القلب، استحسن الرجل ما كان يستقبحه”، ويكفي أن تعلموا أن غالبية ماترون من مفاسد في واقعنا وفي مجتمعنا فمردها إلى اتباع الهوى، فما سرق من سرق إلا باتباع الهوى، وما غش من غش إلا باتباع الهوى، وما زنى من زنى إلا باتباع الهوى، وما وجد في المجتمع تبعا لذلك من قبائح ومنكرات وغير ذلك إلا باتباع الهوى، فغالبية من يتعرضون للعقوبات السجنية في دار الدنيا، وللعقوبات الأخروية في جهنم إلا بسبب اتباع الهوى، فاتباع الهوى أساس غالبية المفاسد، فكيف تكون النجاة منه إذن؟

أقول في الجواب، نحصن أنفسنا من اتباع الهوى أولا بالإقبال على كتاب الله عز وجل قراءة وتدبرا ومعرفة لأحكامه وتطبيقا لما فيه؛ ففيه الحصانة للعقول، وفيه الشفاء للصدور، قال تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظة مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفاء لمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَة للمُؤْمِنِينَ”، ولكننا نلتفت يمينا وشمالا بغية أن نرى هذا الأمر محققا على أرض الواقع، فلا نجد الغالبية منا من يتذكرون كتاب الله تعالى، أو من يعرفون حقيقة بأنه شفاء لما يجدوه في صدرهم من فتنة الهوى ومن ضيق وكآبة وغيرذلك، فغالبيتنا لايتذكر كتاب الله تعالى إلا في مختلف مناسبات الفرح والحزن والمناسبات الدينية. ومن تم فإن كل ما يقوي الإيمان يطرد الهوى من القلب، وكل ما يسهم في ضعف نور الإيمان في القلب يغلب الهوى ويقويه.

ثانيا: ننجي أنفسنا من اتباع الهوى بالخوف من الله، والحياء منه؛ لأن المعصية تأتي بداية من اتباع الهوى، ومن عدم الخوف من الله تعالى، وهو شديد العقاب، وتأتي ثانيا من عدم الحياء من الله وهو يرانا، ولله در من قال: ورب قبيحة ما حال بيني       وبين ركوبها إلا الحياء

فكان هو الدواء لها ولكن     إذا ذهب الحياء فلا دواء

وروى الإمام البيهقي في شعب الإيمان، قال: يقول إبراهيم بن أدهم رحمه الله: “الهوى يُردي، وخوف الله يشفي، واعلم أنَّ ما يزيل عن قلبك هواك أن تخاف من تعلَم أنه يراك”، وقال أحد الحكماء:

 إذا ما خلوتَ بريبةٍ في ظلمةٍ      والنفسُ داعيةُ إلى الطغيانِ

فاستحي من نظر الإله وقل لها    إن الذي خلق الظلامَ يراني

ومما يعين أيضا على النجاة من اتباع الهوى، وهو دواء ناجع، مايتصل بمجاهدة النفس؛ فإن النفس البشرية كالطفل الصغير في حاجة إلى تربية وتأديب دائمة، فإن أدبت نفسك وهذبتها صلحت واستقامت، وإن أهملتها وتركتها استمرت على عوائدها الأولى، ولله ذر الرباني العلامة البوصيري رحمه الله عندما قال: والنفس كالطفل إن تهملْه شبّ على    حبّ الرضاع وإن تَفْطِمْه ينفطم

وقال سهل بن عبد الله رحمه الله رحمه الله:” هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك”، وقال وهب:” إذا شككت في أمرين ولم تدر خَيْرَهما، فانظرْ أبعَدَهما من هواك فأتِهِ”، وقال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: “ياأبا سعيد، أي الجهاد أفضل؟ قال:”جهادك هواك”.

ومما يعين على الخلاص من اتباع الهوى، التفكّر في العواقب والنتائج الوخيمة والسيئة له.. فحين يتبع المرء هواه يقوده إلى المهالك والمصائب والمناكر، فيسرح في هذه الدنيا كما تسرح البهائم، لا همّ له ولا هدف له إلا أن يشبع غريزته ويلبي داعي هواه، حتى ولو كان في ذلك حتفه وهلاكه وخسرانه، تأملوا في أولئك الذين فضحت أعمالهم القبيحة بالصوت والصورة في وسائل التواصل الاجتماعي كيف يغطون وجوههم بأيديهم خوفا من الفضيحة، وخوفا من العواقب الوخيمة، فاتقوا الله عباد الله، وتذكروا – وفقكم الله – أن الذنوب سرعان ما تنقضي لذتها ومتعتها وتبقى حسَراتها وتبعاتها.

أسأل الله تعالى أن يقوينا على مجاهدة أنفسنا وأن يتفضل علينا وعليكم بستره، أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد فياعباد الله، قال الرباني أحمد بن أبي الحواري، وهو من رجال القرن الثالث الهجري: “مررت براهب فوجدته نحيفا فقلت له: أنت عليل، قال نعم، قلت مذ كم؟ قال: مذ عرفت نفسي، قلت فتداوى؟ قال: قد أعياني الدواء، وقد عزمت على الكي، قلت وما الكي ؟ قال: مخالفة الهوى”.

نعم أيها الإخوة الكرام، الإنسان يبقى مريضا حتى يوفقه الخالق عز وجل لمعرفة نفسه، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه كما يقال، فمن عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة، ومن عرفها بالعجز عرف ربه بالقدرة، ومن عرفها بالذل، عرف ربه بالعز، ومن عرفها بالجهل، عرف ربه بالعلم، فإن الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق، والحمد والثناء، والمجد والغنى، والعبد فقير ناقص محتاج، وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه وعيبه وفقره وذله وضعفه، ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله. 

ختاما اعلموا أنكم لا تكبرون عند الله إلا إذا كنتم مع الحق، لا تكبرون في عين الله إلا إذا اتبعتم العدل، لا تكبرون عند الله إلا إذا استقمتم في أقوالكم وأحوالكم وأفعالكم، وهذا كله لايتم إلا بمخالفة الهوى. أسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذلك، والحمد لله رب العالمين.

خطبة الجمعة ليوم الجمعة 12 أكتوبر 2018 الموافق ل 2 صفر 1440 هجرية ، الدكتور مولاي عبد المغيث بصير

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *