أهمية الوقت والعطلة الصيفية
الخطبة الأولى
الحمد لله العزيز الغفار، مكور الليل على النهار، سبحانه جعل الفوز والفلاح لمن اتقاه، وسعى في طاعته واتبع رضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا أن نتواصى بلزوم ما يرضيه، والصبر عن معصيته ونواهيه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أعظم الناس قدرا، وأكثرهم صبرا، فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أحبتي في الله
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى هذا القرآن لهداية البشرية وإخراجها من الظلمات إلى النور؛ ليرحمهم سبحانه وتعالى بذلك، وجعله موعظة يتعظ بها أولوا العقول الرشيدة والأنفس المطمئنة، هذا القرآن أعظم كتاب أنزله الله، وأشرف كتاب، من حكم به عدل، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، المتمسكون به هم الناجون يوم القيامة، السعداء في الدنيا والآخرة، المنصورون على من عاداهم، ((لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من عاداهم، حتى يأتي أمر الله))، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: ((من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)). ولقد أخبرت عائشة رضي الله عنها أن خلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، والله يقول: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].
أحبتي في الله ، لئن كان القرآن بهذه المثابة فإن في تدبر آياته نفعًا عظيمًا وعزًا دائمًا وعلمًا نافعًا، ولقد نعى الله على أقوام أنهم لا يتدبرون القرآن، فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24]، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ.
عباد الله، هذه وقفات مع سورة من كتاب الله عز وجل، سورة عظيمة، جمعت خيرًا كثيرًا، كان من عظمتها أن قال فيها الإمام الشافعي رحمه الله ورضي عنه: “لو ما أنزل الله حجة على العباد إلا هذه السورة لكفتهم”، فهي كافية في إلزامهم بالحق، وقيامهم بما أوجب الله عليهم، وترك ما حرمه عليهم، سورة أخبر الله فيها بخسار الناس جميعًا، لم ينج منهم أحد إلا من جمع أوصافًا أربعة، جامعها هو الرابح الناجي، أتدرون ما هذه السورة وما هذه الأوصاف الأربعة؟ إنها سورة العصر.
يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، أقسم الله فيها بالعصر، وهو الدهر والزمان الذي تقع فيه حركات بني آدم من خير وشر، وهو ميدان العاملين ومضمار المتسابقين، ويختلف الناس فيه اختلافًا عظيمًا، منهم من يعمل فيه بطاعة ربه ومولاه وإصلاح نفسه وأمته، وهذا هو الفائز المفلح، ومنهم من يقطعه في معصية الله إفسادًا لنفسه وأمته، أو يذهب هدرًا لا أفاد ولا استفاد، وهؤلاء هم الخاسرون.
ما أقسم الله بهذا الزمان إلا لأهميته وعظيم منزلته، فيه تستغلّ الأوقات في طاعة الله، وبه يعين المسلمون بعضهم بعضًا، ويزداد المرء شرفًا وجاهًا عند الله وعند خلقه، ((من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخطهم رضي الله عنه وأرضى عليه الناس)).
أقسم الله بهذا الزمان العظيم تنبيهًا لنا وحفزًا على استغلاله والعمل فيه بمرضاة الله والتقرب إليه بكل ما تستطيع. أقسم به على أن كل إنسان خاسر مهما كثر ماله وولده، إلا من جمع هذه الأوصاف الأربع التي بها حياة القلوب والأبدان والبلدان.
أحدها: الإيمان بالله، وبكل ما يقرب إليه سبحانه من عقيدة وعمل، إيمان يجعل تعلق الإنسان بربه وحده، لا رجاء ولا خوف ولا دعاء إلا له دون من سواه، عقيدة تسمو بنفس الإنسان وقلبه، حتى يصل به الحال أنه يعبد الله سبحانه كأنه يراه أمامه، فيجعل الغيب شهادة والخفي ظاهرا.
ثاني هذه الأوصاف: العمل الصالح المقرب إلى الله، يجمع بين الإخلاص لله فلا رياء ولا شرك، وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ، وبين اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ه ، فقد قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، والله يقول: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. ما أحوج الأمة في هذا الزمان إلى الإخلاص لله واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، في عصر تسلط فيه أعداء الله على عباده، ساموهم فيه سوء العذاب، وما ذاك إلا لبعد أهل الإسلام عن دينهم، ولن يرفع عنهم ذلك إلا بالرجوع إلى الله والتوبة إليه، فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، ولا عز لنا إلا بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله.
وثالث هذه الأوصاف: التواصي بالحق، وهو فعل ما يقرب إلى الله والحث عليه والترغيب فيه. وليبدأ الإنسان بمن حوله من أقاربه وجيرانه.
ورابعها: التواصي بالصبر على فعل أوامر الله، والصبر على نواهيه، والصبر على قضاء الله وقدره، وهذا التواصي بالصبر وبالحق يدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي به قوام الأمة وعزها، فهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس بسبب هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ.
اخوتي في الله ، لنتفكر في هذه السورة ونتأملها، ونعمل بما فيها، لنؤمن بالله ورسوله ونعمل صالحًا، ونتآمر بالمعروف وننتهي عن المنكر، وعلينا أن نأخد على يد الجاهل والسفيه، وليعن بعضا بعضًا على طاعة الله، واعلموا احبتي في الله أن من عمل عملاً صالحًا آجره الله وكلّل عمله بالنجاح والتوفيق، ، ولن يتخلف النجاح إلا بنقص في أحد الأمرين: إما الإخلاص أو الاتباع، فالله قد وعدنا بالنصر والعزة، والله لا يخلف الميعاد، ومن أراد الله والآخرة بعمله أعطاه الله الدنيا والآخرة، ومن أراد الدنيا فقد يعطاها أو يحرمها وهو في الآخرة من الخاسرين.
أحبتي في الله إن المتأمل لسورة العصر سيستشف أن الله سبحانه ينبهنا إلى أهمية الوقت وهو الامر الذي اكده صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي رواه الطبراني في المعجم الكبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟)). لن تزول قدما العبد في ذلك الموقف حتى يحاسب عن مدّة أجله فيم صرفه بعامَّة؟ وعمَّا فعل بزمانه وقت شبابه بشكل خاص؟ لأن الإنسان في مرحلة شبابه يكون لديه أكثر العطاء وأمضاه وآكده وأثمره من طرفَي العمر، حيث ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة.كما أنّ الإنسان يسأل عن علمه ماذا عمل به؟ هل وظَّفه في مرضاة الله تعالى، في الدعوة إليه وإرشاد الناس وتعليمهم دين الله وتوحيدَه، أو وظّفه فقط للحصول على لقمة العيش والتكسب به وصرف الأنظار إليه؟
احبتي في الله لقد حرص السلف الصالح على وقتهم بما يعجز عنه الوصف والتعبير، وقد وصفهم الحسن البصري رحمه الله بقوله: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم.ونقل عن عامر بن قيس من التابعين أن رجلاً قال له: تعال أكلمك، قال: أمسك الشمس، يعني أوقفها لي واحبسها عن المسير لأكلمك، فإن الزمن سريع المضي لا يعود بعد مروره، فخسارته لا يمكن تعويضها واستدراكها.
ولقد ضرب لنا السلف الصالح أروع الأمثلة في اغتنام الأوقات حتى آخر رمق في حياتهم، سواء كان العمل دنيوياً أم أخروياً، فمن العمل الدنيوي ما أخرجه الطبراني في الجامع الكبير: عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك ؟ فقال له أبي: أنا شيخ كبير أموت غدا فقال له عمر: أعزم عليك لتغرسنها, فقال عمارة: فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي “
ومن العمل الأخروي ما روى عن الجنيدِ ابنُ محمدٍ أن الوفاةَ حضرتُه، فأخذ يقرأُ القرآنَ في سكراتِ الموتِ ويبكي، فقالوا له تقرأُ القرآن وأنت في سكراتِ الموتِ! قال سبحانَ الله، من أحوجُ مني بقراءةِ القرآنَ وقد أصبحت لحظات تعدُ عليَّ.
لذلك قال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إني لأمقت الرجل أن أراه فارغا ليس في شي من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة ولذلك شكى وبكى الصالحون والطالحون ضيقَ العمر، وبكى الأخيارُ والفجارُ انصرامَ الأوقات، فأما الأخيارُ فبكوا وندموا على أنهم ما تزودوا أكثر، وأما الفجارُ فتأسفوا على ما فعلوا في الأيامِ الخالية.
فتعالوا بنا أحبتي في الله إلى تطبيق واقعنا المأمول، وكيف نستثمر وقتنا كما فعل سلفنا الصالح، وذلك من خلال الأسباب التي تعين على حفظ الوقت وتتلخص فيما يلي:-
1- محاسبة النفس: وهي من أعظم الوسائل التي تعين المسلم على اغتنام وقته في طاعة الله. وهي دأب الصالحين وطريق المتقين،
2- تربية النفس على علو الهمة: فمن ربَّى نفسه على معالي الأمور والتباعد عن سفسافها، كان أحرص على اغتنام وقته.
3- صحبة الأشخاص المحافظين على أوقاتهم: فإن صحبة هؤلاء ومخالطتهم، والحرص على القرب منهم والتأسي بهم، تعين على اغتنام الوقت، وتقوي النفس على استغلال ساعات العمر في طاعة الله، كما يجب الابتعاد عن صحبة مضيعي الأوقات فإن مصاحبة الكسالى ومخالطة مضيعي الأوقات، مهدرة لطاقات الإنسان، مضيعة لأوقاته، والمرء يقاس بجليسه وقرينه، ولهذا يقول عبد الله بن مسعود: “اعتبروا الرجل بمن يصاحب، فإنما يصاحب الرجل من هو مثله”.
4- معرفة حال السلف مع الوقت: فإن معرفة أحوالهم وقراءة سيرهم لَأكبر عون للمسلم على حسن استغلال وقته، فهم خير من أدرك قيمة الوقت وأهمية العمر، وهم أروع الأمثلة في اغتنام دقائق العمر واستغلال أنفاسه في طاعة الله، وقد سبقت صور مشرقة لذلك
5- تنويع ما يُستغل به الوقت: فإن النفس بطبيعتها سريعة الملل، وتنفر من الشيء المكرر، وتنويع الأعمال يساعد النفس على استغلال أكبر قدر ممكن من الوقت.
6- إدراك أن ما مضى من الوقت لا يعود ولا يُعوَّض: فكل يوم يمضي، وكل ساعة تنقضي، وكل لحظة تمر، ليس في الإمكان استعادتها، وبالتالي لا يمكن تعويضها. وهذا معنى ما قاله الحسن: “ما من يوم يمرُّ على ابن آدم إلا وهو يقول: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدِّم ما شئت تجده بين يديك، وأخِّر ما شئت فلن يعود إليك أبداً”.
7- تذكُّر الموت وساعة الاحتضار: فحين يستدبر الإنسان الدنيا، ويستقبل الآخرة، ويتمنى لو مُنح مهلة من الزمن، ليصلح ما أفسد، ويتدارك ما فات .
8- تذكُّر السؤال عن الوقت يوم القيامة: فحين يقف الإنسان أمام ربه في ذلك اليوم العصيب فيسأله عن وقته وعمره، كيف قضاه؟ وأين أنفقه؟ وفيم استغله؟ وبأي شيء ملأه؟ فتذكرُ هذا يعين المسلم على حفظ وقته، واغتنامه في مرضاة الله.
9- الحرص على الاستفادة من الوقت: فإذا كان الإنسان شديد الحرص على المال، شديد المحافظة عليه والاستفادة منه، وهو يعلم أن المال يأتي ويروح، فلابد أن يكون حرصه على وقته والاستفادة منه كله فيما ينفعه في دينه ودنياه، وما يعود عليه بالخير والسعادة
10- تنظيم الوقت: بين الواجبات والأعمال المختلفة دينية كانت أو دنيوية بحيث لا يطغى بعضها على بعض، ولا يطغى غير المهم على المهم.
11- اغتنام وقت فراغه: الفراغ نعمة يغفل عنها كثير من الناس فنراهم لا يؤدون شكرها، ولا يقدرونها حق قدرها، يقول أحد الصالحين: “فراغ الوقت من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر العبد هذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى، وانجرَّ في قِياد الشهوات، شوَّش الله عليه نعمة قلبه، وسلبه ما كان يجده من صفاء قلبه”. فلابد للعاقل أن يشغل وقت فراغه بالخير وإلا انقلبت نعمة الفراغ نقمة على صاحبها
أحبتي في الله: هيا إلى اغتنام الأوقات والعودة إلى رب الأرض والسماوات، وإياكم والتسويف فإن التسويف آفة تدمر الوقت وتقتل العمر، قال الحسن : إياك والتسويف ، فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غداً لك فكن في غد كما كنت في اليوم ، وإن لم يكن لك غد لم تندم على ما فرطت في اليوم، وللأسف فقد أصبحت كلمة “سوف” شعاراً لكثير من المسلمين وطابعاً لهم، فإياك أخي المسلم من التسويف فإنك لا تضمن أن تعيش إلى الغد، وإن ضمنت حياتك إلى الغد فلا تأمن المعوِّقات من مرض طارئ أو شغل عارض أو بلاء نازل، واعلم أن لكل يوم عملاً، ولكل وقت واجباته، فليس هناك وقت فراغ في حياة المسلم، كما أن التسويف في فعل الطاعات يجعل النفس تعتاد
الوقت فيه العبر وفيه العظات ، إن عمر المسلم في هذه الدنيا وقت قصير ، وأنفاس محدودة ، وأيام معدودة ، فمن استثمر هذه اللحظات والساعات في الخير فطوبى له ، ومن أضاعها وفرط فيها ، فقد خسر زمنا لا يعود إليه أبدا ، وفى هذا العصر الذي تفشى فيه العجز، وظهر فيه الميل إلى الدعة والراحة ، جدب في الطاعة ، وقحط في العبادة ، وإضاعة للأوقات فيما لا فائدة ، ونلاحظ في زمننا هذا الجهل بقيمة الوقت والتفريط فيه ، بحيث أصبح الوقت زمن الدعة ، وزمن الكسل ، هذا العصر التي ماتت فيه الهمم ، وخارت فيه العزائم ، تمر الساعات والأيام ولا يحسب لها حساب ، ألا ترى اخي في الله الليلَ والنهارَ كيف يمرانِ في صرمِ الأعمار، ألا ترى إلى الدقائقِ والثواني لا تعود، ألا ترى إلى الشمس إذا غربت فلا يمكنُ أن تأتي في اليومِ الذي صرمتَه؟!!!
فبادروا احبتي في الله احفظوا أوقاتَكم وأعمارَكم مِن الضياعِ، وأعمالَكم مِن الفسادِ، واغتنموا أعمارَكم بالطاعةِ والعبادةِ والأعمالِ الصالحةِ قبل أن تَندَمُوا على فواتِها يومَ لا ينفعُ الندمُ، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ – أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ – أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]، إنه عُمُرُك -أيها الإنسانُ- فلا تُضيِّعْه باللهوِ واللعبِ والغفلةِ والإعراضِ والمعاصي والذنوبِ والبِدَعِ والمحُدَثاتِ؛ فإن كثيراً مِن الناسِ يُعطي نفسَه ما تَشتهي، ولو كانت مِن الأمورِ المحرَّمةِ التي فيها مَضرَّتُها وشقاوَتُها، لا يُفكِّرُ في الموتِ ولا في القبرِ ولا في الحشرِ والحسابِ
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، وإذا قضى أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون، وله الحمد في السماوات والأرض وعشيًا وحين تظهرون، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بديع السماوات والأرض كل له قانتون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين المأمون، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم فيما عند الله راغبون.
احبتي في الله ، ونحنُ على مَشارفِ العطلة الصيفية فإنّه يحسُنُ أن نُذكِّر أنفسَنا بنعمةِ الله ومنَّته علينا وأبناؤُنا وبَناتُنا يعيشون فرحةَ النَّجاح بحَمدِ الله وفضلِه، فلنَكُن حاملين لرسَالتِنا الخالِدَة بتحقِيقِ العبوديّة لله عزّ شأنه، وتطويع النفوس والرَّغبات والشَّهوات للرّزّاق سبحانه، وغَرس القِيَم العالِيَة والأخلاقِ الطَّاهرة في نفوسِنا وواقعِ حَياتنا، ولْنحذَر من حياةِ اللّهو الباطل ومِن حياةِ الذين هم في الرَّذائل غارِقون وللفضائل تاركون.
أيُّها الشبابُ، أَنتم عُنصرُ الأمّة ودليل حيَويَّتها وسبيل نهضَتِها، فمِن الخذلانِ أن تُستَغَلَّ هذه الإجازة في تضييع الأوقاتِ سُدى وإهدارِ اللَّيالي والأيّام في الأمور التّافِهَة والأفعالِ السَّاقطة، فسيِّدُنا ونبيُّنا محَمّد صلى الله عليه وسلم يقول: ((نِعمَتانِ مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ من النَّاس: الصّحّةُ والفَراغ)) رواه البخاري، وابن مَسعود رضي الله عنه يقول: (مَا نَدِمتُ على شيءٍ نَدَمي على يومٍ غَربَت شمسُه نَقَص فيه أجلي ولم يزدَد فيه عملي).
فالمسلمُ يغتَنِم وَقتَه في الخَيراتِ ويَعمُرُه بالقُرُبات، فَرَسولنا صلى الله عليه وسلم يَقول: ((اغتَنِم خمسًا قبلَ خمسٍ: حَيَاتَك قبل موتِك، وصحَّتك قبل سقَمِك، وفراغَك قبلَ شُغلِك، وشَبابَك قبل هَرمِك، وغِناك قبلَ فَقرِك))إنَّ هذه العطلة وقتٌ ثمين يجِبُ على ابناءنا وبناتنا أن يستغلُّوها فيما يقودُهم إلى علوِّ الهمّة وقوَّة العزيمة؛ في اقتِناص الخيراتِ والمفيدِ من أمور الدّين والدّنيا، وبما يَنفَع أنفسَهم وأمَّتَهم ومجتَمَعاتِهم، وبما يحفَظُ لهم وَسائلَ معاشِهِم وتَدبير شؤونهم؛ حتى تَنالَ الأمّةُ عزَّها ويَعودَ لها مجدُها، وفي سِيَر أسلافِنا عِبَر وعبَرٌ.
فالعطلة الصيفية فرصةٌ عظيمة لتَحقيقِ الأهداف النبِيلة والغاياتِ الطيِّبة دُنيا وآخرة، فاللهَ الله في القرناءِ الصالحين الذين إذا رَأوكَ في قبيحٍ صَدّوك، وإن أبصَروك على جميلٍ أيّدوك وأمدّوك، وليحذرِ الآباءُ والأمّهات أن يجِدوا من هذه العطلة فرصَةً لفتحِ الباب على مِصرَاعَيه لأبنائِهم في تَركِ الواجِبَات وفِعل المحرَّمات والانحراف ، وليَحذَر كلُّ مَن استَرعاه الله جلّ وعلا مِن إعانةِ مَن تحتَ رِعَايَتِه في تمهيدِ أسبابِ الانغماس في أوحالِ الضَّلالةِ والأخلاقِ المنحطَّة والسّلوكيّات المنعَوِجَة والتردّي في أوكارِ السّفالة والوقوعِ في مكامِن الإثمِ ومَواقِع الفِسق والخَسَار؛ لما ثَبَت في الوَاقعِ خَطرُها وثبَتَ لدَى كلّ غيورٍ شرُّها وضرَرُها بما يدعُو للرّذائل ويُزيِّن الجرائِمَ، فربُّنا جلّ وعلا يخاطِبنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6]، قال أهل التفسير: “أي: علِّموهم ورَبّوهم وأدّبوهم بما يكون وقايةً لهم من عذابِ الله”، ورسولُنا صلى الله عليه وسلم يقول((: كلُّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته)) رواه البخاري
أيُّها الآباء، احذَروا من الخيانةِ في الأمانةِ بالانسياقِ وراءَ طلباتِ الأبناء دونَ سُؤالٍ عن حلالٍ أو حرام ودونَ رقيب أو حَسيب، وانهَجوا نهجَ نبيِّكم محمّد صلى الله عليه وسلم حينما رسَمَ مَنهجًا واضحًا في عنايتِه بِشبابِ الأمّة حينَما قال لابنِ عمِّه الغُلامِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: ((يَا غُلام، إني أعلِّمك كلمات: احفَظِ الله يحفَظْك، احفَظِ الله تجدْه تجاهَك)). وما أجملَ منهجَ السّلَفِ إذ يقول إبراهيم بن أدهَم رحمه الله: قال لي أبي: يا بنيَّ، اطلب الحديث، فكلما سمعتَ حديثا وحفظتَه فلك دِرهم، قال: فطلبتُ الحديث على هذا.
إخوتي في الله ، لا يعني مما سلف أن يغلق الإنسان عليه بابه أو يحرم نفسه وأبنائه وأهله من الاستجمام والاستمتاع والراحة ، فلا بأسَ في ديننا من راحةٍ للبدن واستجمامٍ للنفوس في أمورٍ مباحة وسياحَةٍ بريئَة، تدفَع الكلَلَ والملل وتزيل الهمَّ وينفَرِج معها الغمُّ، ولكن حسبَ مَنهجٍ معتدلٍ ومسلك وسَط ، مِن غيرِ أن يكونَ اللهوُ غايةً كبرى واللعِبُ والمزاح هدفًا عظيمًا؛ بما يعودُ بالتالي إلى مفاسِدَ كبيرةٍ وشرورٍ عظيمة، وإنما يكون ذلك وفقَ ما يحفَظ الطاقاتِ ويضبط المسالِك، من دون أن يكونَ ذلك جالبًا للعجزِ والكسَل والانتكاس في الدَّعَة والإهمال، وإنما لترويحِ القلوب الواعية والألسنة الذاكرة والجوارح العاملة، وبما يحمِي المرءَ مِن عِلَل البطالة ولوثاتِ الفراغ القاتِل، وعلى أَن يحافِظَ الشبابُ على حُسنِ التنظيم، فلا يطغى غيرُ المهمّ على المهمّ، ولا المهمّ على الأهمّ.
فاحفظوا لحظاتِ العمر، واستغلّوا الوقتَ بما ينفَع في العاجِل والآجل، فالنّفسُ ـ كما قال الشّافعيّ رحمه الله ـ إن لم تَشغَلها بالحقِّ أشغَلَتك بالبَاطِل.
عباد الله هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة محمد بن عبد الله فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال جل في علاه “إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً”
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك وحبيبك نبينا محمد، وارض اللهم عن أمهات المؤمنين، وسائر الصحابة والتابعين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم وفق ملك البلاد أمير المؤمنين محمد السادس لما تحب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم كن له معينا ونصيرا وأعنه وانصره على أعدائه وأعداء المغرب . اللهم امدده من عندك بالصحة و العزم و القوة و الشجاعة والحكمة و القدرة و التوفيق لما فيه مصلحة العباد و البلاد و الأمة الإسلامية قاطبة، و اجعله لدينـــــــــــك و لأمتك ناصراً ، و لشريعتك محكماً .. اللهمّ خذ بيده، وّ احرسه بعينيك الّتي لا تنام، وأحفظه بعزّك الّذي لا يضام، وأيِّده بالحق وارزقه البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام.وأحفظه اللهم في ولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن وشد أزره بأخيـــــــه المولى رشيد وسائر الأسرة العلوية المجيدة
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ.وَالابكار اللهم اجعل مكان اللوعة سلوة، وجزاء الحزن سرورا، وعند الخوف أمنا، اللهم إهدِ حيارى البصائر إلى نورك، وضلال المناهج إلى صراطك، والزائغين عن السبيل إلى هداك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك ألسنة ذاكرة صادقة، وقلوباً سليمة، وأخلاقاً مستقيمة برحمتك يا رحمـن. اللهم يا حي يا قيوم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والأخرة، وأصلح لنا أعمالنا وأقوالنا، وحسّن أخلاقنا وطهر قلوبنا
وافتح لأدعيتنا الإجابة، وتقبل دعائنا يا سميع يا مجيب.
ربنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
د/عبد الهادي السبيوي