أهمية العلم بأحوال القلوب وأمراضها

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،

أما بعد، فياعباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:” وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ”، ونسيان الله تعالى يكون على ضربين: الأول ضعف صلة المسلم بربه، وتبلد أحاسيسه ومشاعره نحو خالقه جل وعلا، والثاني الإعراض عن هديه واستدبار منهجه، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام الطبراني في الكبير عن ابن عمر رضي الله عنهما:” ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه”.

أيها الإخوة الكرام، في بعض الخطب الماضية، كنت حدثكم عن أهم العلوم الشرعية التي ينبغي أخذها والعلم بها من أجل التحقق بمعرفة الله وخشيته وتقواه، وتحدثت حينها عن أهمية التفقه في الدين بمعرفة الحلال والحرام، وهو مايعرف بالضروري من علوم الدين، بدراسة شيء من علوم الإسلام، كالتشبع بمعرفة عقائد الإسلام ودلائلها والأحكام المتعلقة بأركان الإسلام والإيمان والإحسان، وتلاوة كتاب الله تلاوة صحيحة متقنة بتدبر وتمعن، وذلك بتعلم القرآن تلاوة ودراية وتفسيرا، وتعلم الأخلاق الإسلامية المؤهلة لتربية الأولاد، وتنشئتهم في ظل التعاليم الإسلامية، وإدخال حب الله وتعظيمه في قلوبهم، ومراقبة سلوكهم أن لا يشرد عما أمر الله به، وأن لا يجنح إلى مانهى الله عنه، وبقي أيها الإخوة والأخوات أن نتحدث عن جانب مهم من العلوم الشرعية المحمودة، وهو أهمية العلم بأحوال القلب والنفس، أي ما يسميه بعضهم بعلم مصالح الآخرة، أو مايصطلح عليه بعضهم بعلم أحوال القلب وأخلاقه المحمودة والمذمومة، أو مايسمى بعلم المعاملة. أي ما هو مرضي عند الله تعالى وما هو مكروه، وهو العلم بالإخلاص وآفات النفوس وأمراضها، وتمييز لمة الملك من لمة الشيطان.أي تمييز خاطر الملك عن خاطر الشيطان.

فإذا كان الغالب على الإنسان في أيامنا هذه أنه لا ينفك عن دواعي الشر والرياء والحسد وغيرها من الأمراض، فيلزمه إذن أن يتعلم من علم مذمومات أحوال القلب ومهلكات النفس التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، ما يرى نفسه محتاجا إليه، وإزالتها فرض عين كما ذكر العلماء، ولا يمكن إزالتها إلا بمعرفة حدودها، ومعرفة أسبابها، ومعرفة علاماتها، ومعرفة علاجها، فإن من لا يعرف الشر يقع فيه، والعلاج هو مقابلة السبب بضده، وقد ترك غالبية الناس في أيامنا هذه تزكية نفوسهم والعمل على سلامة قلوبهم، اشتغالا بالفضول واللغو وبما لا يعني وبما يحقق للنفس رغباتها وملذاتها وشهواتها.

أيها الإخوة الكرام، غرضنا الأول من طرق هذا الموضوع، هو معرفة ما يذم من أحوال النفس والقلب، فقد توقف العلماء الربانيون عند عدة أحوال وأمراض ذكروا منها: خوف الفقر، وسخط المقدور، والغل، والحقد، والحسد، والغش، وطلب العلو، وحب الثناء، وحب طول البقاء في الدنيا للتمتع، والكبر، والرياء، والغضب، والأنفة، والعداوة، والبغضاء، والطمع، والبخل، والرغبة، والبذخ، والأشر، والبطر، وتعظيم الأغنياء، والاستهانة بالفقراء، والفخر والخيلاء، والتنافس والمباهاة، والاستكبار عن الحق، والخوض فيما لا يعني، وحب كثرة الكلام، والصلف والتزين للخلق، والمداهنة، والعجب، والاشتغال عن عيوب النفس بعيوب الناس، وزوال الحزن من القلب، وخروج الخشية منه، وشدة الانتصار للنفس إذا نالها الذل، وضعف الانتصار للحق، والأمن من مكر الله سبحانه وتعالى في سلب ما أعطى، والاتكال على الطاعة، والمكر والخيانة، والمخادعة، وطول الأمل، والقسوة، والفظاظة، والفرح بالدنيا والأسف على فواتها، والأنس بالمخلوقين والوحشة لفراقهم، والجفاء، والطيش، والعجلة، وقلة الحياء وقلة الرحمة، فهذه وأمثالها من صفات القلب المريض، وهي مغارس الفواحش ومنابت الأعمال المحظورة التي ينبغي أن نحذر منها بمعرفة تفاصيل تفاصيلها، وأضدادها وهي الأخلاق المحمودة منبع الطاعات والقربات التي ينبغي أن نتحقق بتفاصيل تفاصيلها، كالصبر والشكر والخوف والرجاء والرضا والزهد والتقوى والقناعة والسخاء ومعرفة المنة لله تعالى في جميع الأحوال والإحسان وحسن الظن وحسن الخلق وحسن المعاشرة والصدق والإخلاص وغيرها، فالعلم بحدود هذه الأمور وحقائقها وأسبابها وثمراتها وعلاجها، هو علم الآخرة، وهو العلم الذي ينبغي أن نحرص على تعلمه، وهو فرض عين في فتوى العلماء الربانيين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ثم الحمد، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،

أما بعد، فياعباد الله، يقول الله تعالى:”ولاتخزني يوم يبعثون يوم لاينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم”،

فشرف الإنسان وفضيلته التي فاق بها جملة من أصناف الخلق باستعداده لمعرفة الله سبحانه، التي هي في الدنيا جماله وكماله وفخره، وفي الآخرة عدته وذخره، وإنما استعد للمعرفة بقلبه لابجارحة من جوارحه، فالقلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إلى الله، وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وإنما الجوارح أتباع وخدم وآلات يستخدمها القلب، ويستعملها استعمال المالك للعبد، فالقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقا بغير الله، وهو المطالب وهو المخاطب وهو المعاتب، وهو الذي يسعد بالقرب من الله فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه، وهو المطيع بالحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره، وهو العاصي المتمرد على الله تعالى، وإنما الساري إلى الأعضاء من الفواحش آثاره، وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساوئه، إذ كل إناء ينضح بما فيه، ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل، إذ أكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدة ربه ومراقبته ومعرفة صفاته، وأنه كيف يهوي مرة إلى أسفل السافلين وينخفض إلى أفق الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين، ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه فهو ممن قال الله تعالى فيه:” نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون”، إن الآية الكريمة صريحة في أن نسيان الله تعالى يكون سبباً مباشراً في جعل المرء ينسى نفسه، وكأن الذي يضيّع نفسه في عاجلها وآجلها، يضيّع الدنيا فتلفه المشكلات من كل صوب، ويضيع الآخرة بخسران النجاة والفوز بالجنة.
إن نسيان النفس ليس على درجة واحدة لدى الناس، وإن الضرر الذي سيلحقهم سيكون بالتالي متفاوتاً، وعلى مقدار النسيان والتضييع لأمر الله تعالى سيكون التضييع للنفس والدنيا والآخرة، فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه وأحواله وأمراضه أصل الدين، وقاعدة أساس طريق المسلم إلى ربه، وبذلكم فإننا في الخطب المقبلة بحول الله تعالى سنتطرق لهذه الأوصاف والأحوال والأمراض لننتبه إليها ونحذر أن نكون من أهلها لنزداد من الرحمان قربا، والحمد لله رب العالمين.

الدعاء

 

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *