أهل التصوف وواجب التقريب بين المجتمعات الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد،
فإن التصوف كلمة قد شاع استعمالها في موضوعها وغير موضوعها، فبعض الناس يظنون أن أهل التصوف هم أهل الانعزالية لا علاقة لهم بالمجتمع، وبعضهم يظنون أنهم فرقة جديدة ظهرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبين هذه الظنون الفاسدة التي لا تمت بصلة إلى الحقيقة لا بد للمنتمين إلى التصوف والمنتسبين إلى الطرق الصوفية أن يقوموا بواجبهم نحو المجتمع، لا سيما في هذه الأيام التي كثرت فيها الفرق الإسلامية والأحزاب المنسوبة إلى الإسلام.
فأولا، أشير إلى بعض الحقائق تكون مزيلة لهذه الشكوك المحيطة بالتصوف، التصوف أمر قديم عمل عليه الأنبياء والصديقون منذ قديم الزمان، وليس بأمر محدث، ولكن بسبب غلبة العادات القبيحة التي ظهرت في هذا الزمان اتهمت الصوفية بالانعزالية والبعد عن المجتمع، والصوفي في الحقيقة من فني عن نفسه وبقي بالحق تبارك وتعالى وسلم من قيد الطبائع والحظوظ النفسانية ووصل إلى حقيقة الحقائق.
وأول الصوفية في العالم هو آدم عليه السلام خلقه الله سبحانه وتعالى من تراب ثم رفعه إلى مقام الاجتباء والاصطفاء وشرف بالخلافة، ثم صار طريق التصوف ممهدا وانتقل ذلك إلى الأنبياء نسلا بعد نسل، ولا بد للصوفية من مَجْمَع يجتمعون فيه ويتصاحبون، فكان أول خانقاه في الأرض هو الكعبة ولم يكن قبله خانقاه، وكان نوح عليه السلام قد قنع في الدنيا بكساء واحد، وكان موسى عليه السلام يلبس كساء أعطاه إياه شعيب عليه السلام، وكان عيسى عليه السلام يلبس دائما رداء من صوف، وفي عهد موسى وعيسى عليهما السلام صار بيت المقدس خانقاه، وهكذا أسست خانقاهات في مختلف الأصقاع والبلاد لعبادة الله وبيان الأسرار الإلهية والرموز الربانية، حتى آل الأمر إلى سيدنا ونبينا سلطان الأولياء والأنبياء محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان أيضا يلبس رداء من الصوف، وكانت في مسجده صلى الله عليه وسلم زاوية، كانت طائفة من الصحابة تجتمع فيها، وهم سالكو هذه الطريقة العلية، منهم شيوخ مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسلمان رضي الله عنهم، ومنهم متوسطون مثل معاذ وبلال وأبي ذر وعمار رضي الله عنهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في تلك الزاوية عند أوقات الخلوة ويلقي إليهم أمورا لايفهمها صناديد العرب وعوام الصحابة، وكان عددهم يبلغ قرابة سبعين نفرا، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أعز وأكرم رجلا من الصحابة أعطاه بردته فيكون ذلك الصحابي صوفيا.
فمغزى الكلام أن هذه الطريقة ظهرت منذ عهد آدم عليه السلام، وبلغت كمالها في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الأمر هكذا فماذا كانت خدمات هؤلاء الرجال الأصفياء في المجتمع؟ هذا السؤال جوابه سهل لفظا وصعب عملا؛ إذ كان هدفهم الوحيد وهمهم طول الليل وطول النهار توحيد صفوف المسلمين، وجمعهم تحت راية الإسلام، كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
هذه الأسوة الحسنة نراها في جميع أولياء الله الذين سجلت أعمالهم في أوراق التاريخ بأحرف من نور أمثال سلطان الأولياء محيي الدين عبد القادر الجيلاني، وسلطان الهند خواجه معين الدين الجشتي، ومجدد الألف الثاني الشيخ أحمد السرهندي المعروف بالغمام الرباني رضي الله عنهم أجمعين.
هؤلاء الأولياء الكرام بذلوا جل أوقاتهم لنشر الوحدة والوئام والأخوة بين صفوف المسلمين، فالشيخ عبد القادر الجيلاني نشر الواعي الإسلامي بين المسلمين بالوعظ والنصيحة، في كل أسبوع عقد الشيخ أبو سعيد المخرمي لتلميذه عبد القادر مجالس الوعظ في مدرسته في بداية 521هـ، فصار يعظ فيها ثلاثة أيام من كل أسبوع بكرة الأحد وبكرة الجمعة وعشية الثلاثاء، واستطاع الشيخ عبد القادر بالموعظة الحسنة أن يرد كثيرا من الحكام الظالمين عن ظلمهم، وأن يرد كثيرا من الضالين عن ضلالتهم، حيث كان الوزراء والأمراء والأعيان يحضرون مجالسه، وكانت عامة الناس أشد تأثرا بوعظه، فقد تاب على يده أكثر من مائة ألف من قطاع الطرق وأهل الشقاوة، وأسلم على يديه ما يزيد عل خمسة آلاف من اليهود والمسيحيين.
وهذا يدل على أن الصوفي ليس من يجلس ببعيد عن الناس ويعتزلهم، بل الصوفي الحقيقي هو الذي يعيش بين الناس ويسعى في توحيد صفوفهم ونشر الوعي بينهم ودعوتهم إلى الله الواحد القهار، وقد عاش في جمهورية الهند كثير من الصوفيين أمثال الشيخ خوجة معين الدين الجشتي الأجمري، والشيخ نظام الدين أولياء الدهلوي، والشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي، والشيخ أحمد السرهندي، والشيخ ولي الله الدهلوي رحمه الله، وهؤلاء الأولياء الكرام بذلوا أوقات عمرهم لتوحيد صفوف المسلمين بصفاء قلوبهم وزكاة نفسهم، لا بطريق العنف والتخويف.
فالشيخ خوجة معين الدين الجشتي المشهور بسلطان الهند، كان يقوم بالوعظ والنصيحة، فأسلم على يده آلاف من الكفار والمشركين، أما الشيخ أحمد السرهندي فقد عاش في زمن كان الحكام المسلمون وقتئذ قد انحرفوا عن طريق الحق، حتى أن الملك أكبر المغولي أسس دينا جديدا باسم الدين الإلهي، وفي هذه الحالة الحرجة القاسية لم يبعد الإمام الرباني السرهندي عن الناس بل خاض في المجتمع وعمل في صالحهم، وترك راحته لراحة الناس، وهداهم إلى النهج القويم والصراط المستقيم، وهكذا كان شأن الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله، حيث كان متعمقا في التصوف وعرف بالأسرار الربانية، ولكنه مع ذلك كله قضى حياته في التصنيف والتأليف ودعوة الناس إلى الخير والتفريق بين الحق والباطل، وهكذا كان شأن أكثر الأولياء رحمهم الله، ونحن في هذه الأيام نعيش في زمن كثرت فيه الفرق بين المسلمين، وإن كانوا متفقين في العقيدة والآراء إلا أن الأغراض الفاسدة الدنيئة قد مزقت شملهم وصاروا يتقاتلون ويتحاسدون ويتباغضون، وهو الأمر نفسه الذي خاف منه حبيبنا صلى الله عليه وسلم قبل قرون، حيث يقول وهو أصدق القائلين كما يرويه الإمام مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر آخاه فوق ثلاث”، هذا الاختلاف هو الذي ساق المسلمين إلى الخوف والذعر من القوات المستعمرة، حيث فقد المسلمون الاتحاد والاصطفاف على قلب رجل واحد، مقابل القوات التي تريد استئصال المسلمين من وجه المعمورة، وفي هذه الظروف القاسية والحرجة لابد للصوفية وأهل التصوف أن يقوموا بنشر اتحاد بين المسلمين وإزالة الفرقة من بينهم وهذا لا يمكن إلا بالدخول في وسط القوم وجعلهم إخوانا.
ومما يدل على دور الصوفية في تغيير وضع المجتمع أنهم كانوا لا يخافون إلا الله، وكانوا يقولون الحق بأعلى صوتهم وحتى في وجه الجبابرة، كما يدل عليه قول الحسن البصري لابن هبيرة:” خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك”، وكما حكى الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره العزيزأنه قال للخليفة العباسي المقتفي ﻷمر الله لما ولي على الناس ظالما:” وليت على المسلمين أظلم الظالمين، ما جوابك غدا عند الله أرحم الراحمين؟”.
هكذا كان أسلافنا الصالحين الصوفية الكرام في المجتمع، ولكن الأمر قد انقلب اليوم ظهرا لبطن، فصار المسلمون أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، يظلمون ويضطهدون ويتجرعون مرارة الظلم والذل!
فالشرط الوحيد للعلو والرفعة، الاتحاد والإيمان الكامل في الله وفي رسوله، وفي كل شيء يجب الإيمان به، الإيمان الظاهر فقط بل الإيمان الذي خالط اللحم والعضم، وتسرب إلى الأحشاء والعروق والاصطفاف تحت العلماء والأصفياء، وفقنا الله لما فيه صلاح المجتمع، آمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.