أصول الحوار وآدابه

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.

أما بعد فياعباد الله، في الخطبة الماضية تطرقنا لموضوع بالغ الأهمية، وهو المتعلق بدور الحوار الجاد البناء في إنهاء الخلافات والنزاعات والمخاصمات الحاصلة في المجتمع، وبينا أنه منهج الإسلام الرائد وسبيله الأصلح في إنهائها، وذكرنا أن الواحد منا ينبغي أن يعود نفسه على الحوار الهادئ الموضوعي الفعال مع زوجه وأبنائه وأهل عشيرته وجيرانه وأحبابه، وبالجملة مع جميع المسلمين وفي أي مكان كان وفي أي ظرف وزمان، وهو أمر ضروري في علاقتنا مع عباد الله تعالى، خاصة إذا علمنا أنه متى انتابتنا عصبية أو انفعالا في حوارنا مع الناس، وخرجنا عن طورنا، يمكن أن يكون ذلك سببا في ارتكاب ذنوب ومعاصي دون أن نلقي لها بالا، لذلكم وجب اعتماد الحوار الهادئ الموضوعي منهجا في حال خلافنا واختلافنا مع أحد مع الناس.

وبقي أيها الإخوة والأخوات أن نتطرق اليوم لتتمة الموضوع بالتطرق لأصول الحوار الهادف الذي ترجى منه نتيجة، وبعض آدابه الهامة، روى أبو داود عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” أنا زعيم في ربض الجنة – أي أسفل الجنة – لمن ترك المراء وإن كان محقا…”، والمراء لغة هو استخراج غضب المجادل عمدا وقصدا، وروى الحاكم في المستدرك والإمام أحمد في المسند عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن، فغضب غضبا شديدا، حتى كأنما صب على وجهه الخل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: “لاتضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل”، ثم تلا: ” ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون”، وقال أحد الحكماء: “من حماقة الإنسان في دنياه أن يتعصب كل منا لمايراه”.

أيها الإخوة الصالحون، لقد عدد العلماء رحمهم الله أصول الحوار الهادف وآدابه، فذكروا منها آدابا ينبغي التحلي بها أثناء الحوار مع أحد من الناس، أول ذلك التزام القول الحسن وتجنب منهج التحدي والإفحام، وذلك بأن ننأى بأنفسنا عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز، ومن لطائف التوجيهات الإلهية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب الانصراف عن التعنيف في الرد على أهل الباطل حيث قال الله تعالى لنبيه:” وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون”.

ويلحق بهذا الأصل تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث وتعمد إيقاع الخصم في الإحراج، فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف، وإغلاظ القول ورفع الصوت وانتفاخ الأوداج لايولد إلا غيظا وحقدا أو خنقا، ومن أجل هذا فليحرص المحاور ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة، لإن صاحب الصوت العالي لم يقدم على إعلاء صوته إلا لضعف حجته وقلة بضاعته فيستر عجزه بالصراخ، وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان، على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر، وذلك فيما إذا تجاوز الحد وطغى وظلم وعادى الحق، يقول الله تعالى:” لا يحب الله الجهر بالسوء إلا من ظلم”.

أيها الإخوة الكرام، وذكروا من آدابه وأصوله مبدأي الرفق واللين، يقول الله تعالى مادحا نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم واصفا إياه بالرحمة واللطف واللين: ” فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك”، وفي هذا المقام أذكر لكم قصة الرجل الذي دخل على الخليفة المأمون يعظه فأغلظ له القول، فقال له المأمون معاتبا:” لقد أمر الله موسى عليه السلام وهو خير منك أن يذهب إلى فرعون وهو شر مني يدعوه فقال له:” فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى”.

ومن غاية الأدب واللباقة في القول وإدارة الحوار الفعال، ألا نتعامل أثناءه بذكاء مفرط، فنتكلم بعبارات مختزلة ونعتمد الإشارة البعيدة التي تجعل المحاور لايفهم المقصود، كما لا ينبغي أن نعتمد الغباء والسذاجة والجهل المطبق، فنبالغ في شرح مالا يحتاج إلى شرح وتبسيط.

ومن أصول الحوار الهادف عدم الاستئثار بالكلام والاستطالة في الحديث، يقول ابن عقيل رحمه الله في كتابه فن الجدل:” وليتناوبا الكلام مناوبة لامنابهة، بحيث ينصت المعترض للمستدل حتى يفرغ من تقريره للدليل، ثم المستدل للمعترض حتى يقرر اعتراضه، ولا يقطع أحد منهما على الآخر كلامه، وإن فهم مقصوده من بعضه”، ومن الخطأ أن تحصر همك في التفكير فيما ستقوله، ولا تلقي بالا لمحدثك ومحاورك، قال سيدنا الحسن بن علي لابنه، رضي الله عنهم أجمعين:” وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ولا تقطع على أحد حديثا وإن طال حتى يمسك”، قال أحدهم :” كن عند سماعك للحديث كأنك تسمعه لأول مرة وإن كنت على علم به”. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

أما بعد فياعباد الله، أخرج ابن عساكر عن الإمام الأوزاعي في بلاغاته أنه قال:” بلغني أن الله تعالى إذا أراد بقوم شرا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل”.

أيها الإخوة الكرام، يذكر أهل العلم أن المحاورات والجدل ينبغي أن يكون في جلسات محدودة الحضور، قالوا: ” وذلك أجمع للفكر والفهم وأسلم لحسن القصد، وإن في حضور الجمع الغفير مايحرك دواعي الرياء والحرص على الغلبة بالحق أو بالباطل، والأجواء الجماهيرية في الغالب تغطي الحق وتشوش الفكر، مما يقوي التباس الحق وعدم الوصول إلى نتيجة، ويصعب الاعتراف بالأخطاء.

وآخر أدب وخلق وخصلة يذكرها العلماء هي أن يوطن المحاور نفسه ويروضها على الإخلاص لله في كل مايأتي ويذر في ميدان الحوار وحلبته، ومن مظاهر ذلك أن يدفع عن نفسه حب الظهور والتميز على الأقران وإظهار البراعة وعمق الثقافة والتعالي على النظراء والأنداد وعدم القصد إلى انتزاع إعجاب الحاضرين والثناء واستجلاب المديح، فإن كل ذلك مفسد للحوار البناء الهادف وصارف له عن الغاية، ومن الأجدى أن يسائل كل واحد منا نفسه هذه الأسئلة قبل الدخول في أي حوار: هل ثمة مصلحة ظاهرة ترجى من هذا النقاش ومن المشاركة في الحوار؟ هل أقصد من مشاركتي تحقيق رغبة نفسية دفينة؟ وهل أنوي فعلا أن ينتهي الحوار إلى نتيجة مرضية أم ليست لدي هذه النية أصلا؟ إن هم المخلص أيها الإخوة والأخوات أن ينتشر الحق والخير في كل مكان ومن أي مكان ومن أي وعاء وعلى أي فم

أيها الإخوة الكرام، فلنحذر إذن أن نكون من هؤلاء الذين يجادلون ويخاصمون بقصد الجدال ودوام النزاع والشقاق والخلاف، لابقصد الحوار الهادئ الفعال الذي يراد منه الوصول إلى صفاء القلب والسريرة والبلوغ إلى نتيجة، وليكن هدفنا جميعا الذي نرجو الوصول إليه من خلال هذه الخطبة هو اعتماد الحوار منهجا رائدا في حياتنا وفي مختلف المشاكل التي تعترض سبيلنا، والحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *