مداخلة المقدم الحسين جاكيتي أمين بعنوان: “دور الطريقة التجانية في نشر الإسلام في مالي: جهود الحاج عمر الفوتي أنموذجا”

المقدم الحسين جاكيتي

أمين عام الجمعية التجانية للدعوة الإسلامية، وأمين عام المجلس الاتحادي الوطني لمريدي الطريقة التجانية بمالي

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والفاتح لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم.

أما بعد، فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

العلماء الأجلاء؛ اسمحوا لي في مستهل حديثي عن “دور الطريقة التجانية في نشر الإسلام في مالي، جهود الحاج عمر الفوتي نموذجا”،أن أرفع برقية عاجلة، برقية إجلال وتقدير تحمل عبق المحبة وعبير المودة من جمهورية مالي شعبا وقيادة إلى مقام أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين سيدي محمد السادس نصره الله بنصره المبين؛ هذا الملك إن جاز لي أن أسميه بالملك الصوفي الذي يرعى كافة التجمعات الصوفية؛ فهو كالبدر، من حيث التفت رأيته يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا؛ كالشمس في كبد السماء وضوؤها يغشى البلاد مشارقا ومغاربا.

أيها الأخوة الكرام؛ لا يخفى على أحد منكم أن التصوف يمثل جوهر الإسلام وروحه النابض، فالتصوف هو المعبر عنه بمقام الإحسان في حديث جبريل الشهير “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.

أيها الإخوة الأجلاء؛ من نافلة القول البرهنة أو محاولة البرهنة من الناحية التاريخية بأن الإسلام انتشر هذا الانتشار السريع والمترامي الأطراف في منطقة غرب إفريقيا، من نافلة القول البرهنة أو محاولة البرهنة بأن الإسلام حظي بهذا الإقبال المنقطع النظير في الأوساط الأفريقية دون كل المعتقدات الأخرى، من نافلة القول البرهنة أو محاولة البرهنة أن ذلك كله كان بفضل الجهود التي بذلتها الطرق الصوفية بمختلف أطيافها ومشاربها والأخلاق السامية التي كان يتحلى بها شيوخها من محبة وتواضع وتسامح وحوار وميل إلى التعايش السلمي مع أتباع الديانات الأخرى ودعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وتغليب جانب التربية الروحية واستئصال النزوات والنزغات النفسانية الشيطانية التي تفضي دائما إلى التصارع والتقاتل من أجل حظوة دنيوية فانية، تحقيقا وتجسيدا للرسالة الصوفية؛ هذه الرسالة الماثلة في كافة الطرق الصوفية، والتي مؤداها السعي إلى الصفا وترك الدنيا وراء القفا والاقتداء بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. هذا هو جوهر التصوف ورسالته الماثلة في كافة الطرق وهي رسالة التوحيد الصرف وإن تعددت الوسائل والطرق فالغاية هي الغاية.

عباراتهم شتى وحسنك واحد                           وكل إلى ذاك الجمال يشير

أيها العلماء الأجلاء؛ تعتبر الطريقة التجانية من جملة الطرق الصوفية التي امتن الله تبارك وتعالى بها على هذا الزمان. ومنذ تأسيس الزاوية التجانية في مدينة فاس على يد مؤسسها القطب المكتوم والبرزخ المحمدي المعلوم سيدي ومولاي أبي العباس أحمد بن محمد التجاني الذي تغنى بمناقبه سيدي عبد الرحيم البرعي السماني في إحدى ترانيمه الشعرية الرقيقة التي يقول في مطلعها:

إن ضاق عيشك مرة بزمان          فانزل بصرح العارف الرباني

نجم الهداية والمكارم والتقى          شمس المعارف أحمد التجاني

هو قطب كل الأولياء بأسرهم          وممدهم في السر والإعلان

ناهيك أن إمامه خير الورى          بل شيخه في الورد والقرآن

ولقد سمى فوق السماء سناؤه          فأضاءها من مغرب البلدان

والبدر يظهر للأنام هلاله          من مغرب لا من محل ثان

إلى آخر ما هنالك من التوسلات ومن التغني بجمال هذا الشيخ العظيم.

ومنذ قيام الزاوية التجانية على يد مؤسسها، ما فتئ هذا الشيخ المربي الجليل، هذا الشيخ الكامل الوارث لأسرار النبوة وأنوارها، ما فتئ يرسل رسل السلام والمحبة والتسامح والحوار إلى كل بقعة من بقاع المعمورة، وفي يد كل واحد منهم قنديل من قناديل المعرفة مثل نورها(كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم) الآية.

فقبل أن يرسلهم رسل محبة ورسل سلام، أعدهم الشيخ خير إعداد، ورباهم خير تربية وشحنهم شحنة روحية عظيمة، أفرغ في جعبتهم الميراث النبوي الذي كان يحمله حيث كانوا رتقا ففتقهم فتقا جميلا، وفتح أبصارهم وبصائرهم الفتح الأكبر، ثم بعثهم إلى كافة أصقاع المعمورة ليبلغوا الرسالة ويؤدوا الأمانة وينصحوا الأمة وينشروا الملة السمحاء بين البرية، فبعث سيدي علي حرازم برَّادة إلى الحجاز، بيد أن المنية أدركته دون بلوغ المأرب، وبعث سيدي محمد الغالي بوطالب المغربي إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ وأرسل سيدي محمد الحافظ الشنقيطي إلى بلاد شنقيط، وهكذا دواليك؛ فقاموا بالمهمة خير قيام، ونشروا الإسلام بسماحته ولطفه على أحسن ما يرام؛ أنشأوا المدارس والخلوات القرآنية والمجالس العلمية والزوايا والمعاهد الإسلامية ونشروا الأخوة الإسلامية، وألغو الكتب وأنشأوا القصائد في ذكر مناقب الإسلام ومناقب رسول الإسلام، فدخل الناس في الإسلام على أيديهم أفواجا وحاربوا الوثنية والإلحاد، ووقفوا في وجه المد التنصيري والاستعمار في أفريقيا خاصة، وخلفوا تراثا فكريا هائلا يجب السعي للاطلاع عليه والاستفادة منه والإفادة به.

أيها الإخوة الأعزاء، منذ قيام الزاوية التجانية بفاس حرسها الله من كل بأس، لم تلبث حتى انتشرت تعاليمها في كل أنحاء المغرب من المحيط الأطلسي غربا إلى عين ماضي وتماسين وتواتي شرقا؛ ومن البحر الأبيض المتوسط شمالا إلى أقصى جنوب البلاد بشنقيط؛ ثم ما لبث أن تعدى إشعاع هذه الطريقة إلى نهر السنغال ليعم كل بلاد السودان الغربي الذي يضم الآن السنغال ومالي والجزء الشمالي من غينيا وشمال نيجيريا؛ ومن هنا امتد إلى باقي إفريقيا السوداء المسلمة جنوبا وإلى شرق القارة ثم إلى القارة الآسيوية.

أيها الإخوة الأعزاء؛ يعتبر الحاج عمر بن سعيد الفوتي واحدا من أبرز علماء ومجاهدي غرب إفريقيا الذين كان لهم الأثر البارز في تاريخ المنطقة، قام الحاج عمر بحركة إصلاحية كبيرة هدفت إلى نشر الإسلام وإحياء روح الجهاد، وشملت مناطق واسعة من حوض نهر السنغال والنيجر؛ وظل عمله ودعوته وجهاده يطبع مسار المنطقة حتى اليوم من باب قوله سبحانه وتعالى: “نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ”.

أيها الإخوة؛ نشأ الشيخ الحاج عمر في بيئة إسلامية، المشتغلون فيها بالعلم هم علية القوم وطليعة المجتمع، فأقبل منذ نعومة أظافره على طلب العلم وارتبط بعلماء عديدين على جانب ضفة النهر؛ فأخذ عنهم علوم اللغة والفقه والتصوف، ثم شد الرحال إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، فأقام هناك ثلاث سنين أو تزيد، احتك خلالها بكبار علماء الحجاز والتقى بمحمد الغالي التجاني المغربي. وفي طريق عودته مر بأرض الكنانة والتقى بعلماء الأزهر وأخذ عنهم في وقت بدأت فيه مصر تحتك بالغرب بعد حملة نابوليون بونابارت، مما جعله يدرك النوايا الاستعمارية في الشرق والغرب الإسلاميين. وأثناء عودته مر بنيجيريا وأقام بها صلات مع أسرة الشيخ المصلح عثمان دان فوديو، تلك الأسرة التي حملت لواء الدعوة إلى الإسلام ونشرت ثقافته في أرجاء واسعة من نيجيريا والمناطق المجاورة.

أدى احتكاك الفوتي بعلماء الأمة واطلاعه الواسع على أحوال المسلمين في البلاد التي مر بها إلى تحول كبير في فكره ورؤاه، فاستحوذت ضرورة تغيير الأوضاع على فكره وعقله. وبعد عودته إلى فوتا،قام بجولات استطلاعية أدهشه فيها ما يعم المنطقة من فتور الوازع الديني عند المسلمين وتشتت قواهم وتفشي الجهل فيهم.

وفور انتهاء جولته بدأ السعي حثيثا إلى نشر الإسلام في المناطق التي لم يعمها، وإلى تطهيره من الشوائب التي علقت به في البلاد المجاورة، في إطار حركة إصلاحية كبرى تلخصت أهدافها في إبعاد خطر النصارى عن غرب أفريقيا حيث كان الأوربيون يتاجرون مع أهل تلك المناطق ويحاولون مد نفوذهم السياسي والاقتصادي، وربما فرض النصرانية عليها.

فعمل على نشر الإسلام في المناطق غير المسلمة وتصحيح ما انحرف من عقائد المسلمين وتطهيرها من الشوائب والترهات والممارسات الغريبة عن الإسلام الصحيح، وكان الحاج عمر يرى ضرورة وجود قوة مادية رادعة ومنظمة تقوم بحماية المكتسبات الإسلامية ورعاية شؤون المسلمين.

يمكن قسمة المراحل التي مرت بها حركة الحاج عمر الإصلاحية إلى طورين هامين:

الطور الأول: طور التكوين والإعداد، في بداية هذه المرحلة، أقام الحاج عمر بإحدى مناطق فوتا جلو القريبة من الحدود المالية السنغالية مركزاً للتعليم والتربية، حيث التحقت به جموع كبيرة من أبناء فوتا الراغبين في الأخذ من معارفه الإسلامية الغزيرة؛ شكلت تلك الجموع النواة الأولى للحركة،فأقبل عليها الشيخ يتعهدها بالتربية والتعليم إلى أن وصل بعض منهم إلى درجة كبيرة من العلم، فدفع بهم إلى مناطق مختلفة من فوتا لنشر العلوم وتصحيح العقيدة لديهم ولتعبئة وشحذ همم الجماهير للجهاد ضد الوثنيين والخطر الاستعماري النصراني المحذق؛ واستطاع أن يحقق للطريقة التجانية التي شهدت معه انتشاراً واسعا لم يسبق له مثيل في الغرب الإفريقي بعضا من المفهوم الأصيل لحركة تكوين أجيال من المسلمين على التربية الصوفية، التي هي حسب أنور الجندي “النفسية المفطومة عن الشهوات، القادرة على مواجهة انحلال المجتمعات في إيجابية وقوة ، ومجابهة الغزو الخارجي بنفسية المجاهد المعتد للاستشهاد في سبيل حماية الفكرة والذود عن البيضة، والدفاع عن الأرض والوطن”.

الطور الثاني: طور الجهاد، بعد انتهاء المرحلة الأولى بالتحاق أعداد كبيرة من أبناء فوتا بدعوته، بدأ الحاج عمر في تكوين جيش جرار من الفوتيين الذين توافدوا إليه بشكل منقطع النظير ، ودخل بهم في معارك عديدة مع وثنيي مالي والسيغو ومنحرفي ماسينا والأوروبيين الغزاة، واستطاع خلال فترة وجيزة أن يجمع تحت راية الإسلام رقعة واسعة حول نهري السينغال والنيجر .
ولئن كان الحاج عمر لم يتمكن من إقامة دولة ذات مؤسسات لاشتغاله بالجهاد الذي ملك عليه عقله وفكره، فقد استطاع أن يؤسس لحركة إصلاح وجهاد كان لها الدور البارز والأثر الطيب في بلدان غرب إفريقيا، ونجحت في استقطاب الفوتيين علماء وطلابا، وكادت أن تخلي البلاد تماما من مدارس العلم الشرعية بها، لولا أن الحاج عمر تنبه سريعا لذلك الخطر فأمر واحدا من أبرز تلاميذه هو الشيخ محمد العالم باه أن يتفرغ لتعليم الناس، فبادر هذا الأخير إلى تأسيس مدرسة بقرية « بكيجيوي »، لم تفتأ أن أصبحت مركز إشعاع علمي تخرج منه علماء لعبوا دورا بارزا في نشر الثقافة العربية والإسلامية في كل بلدان غرب إفريقيا، وأبقوا للإسلام أثرا راسخا استعصى على الاقتلاع رغم الهزيمة العسكرية التي لحقت جيش الحاج عمر في مغارة « ديغمبري » عام 1864م ورغم نجاح المستعمرين في تحييد القوات الإسلامية المجاهدة بقيادة أحمد بن الحاج عمر عام 1893م.

إلى هنا أحييكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

[wpdevart_youtube]bHvfZdpZIbk[/wpdevart_youtube]

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *