الحقوق المشتركة بين المسلمين (12) اتباع الجنازة -1-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحقوق المشتركة بين المسلمين (12) اتباع الجنازة -1-
الحمد لله، الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمه، ورضي لنا الإسلام دينا، نحمده تعالى ونشكره ونستغفره، ونستعين به ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلاهادي له، ونشهد لاإله إلا الله، وحده لا شريك له، القائل في محكم كتابه المبين: “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه من خلقه وخليله، جمع الله به الكلمة ووحد به الأمة، أرسى دعائم أخوة المسلمين ببيان الحقوق المشتركة، في قوله صلى الله عليه وسلم: “حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيتَه فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمّته، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتّبِعه”، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم اللقاء به، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، نواصل سلسلتنا من الخطب المتعلقة ببيان الحقوق المشتركة بين المسلمين، التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على إشاعة التخلق بها بين المسلمين توطيدا لرابطة الأخوة الإنسانية وسبيلا لتمتين أواصر المحبة بين المسلمين، واليوم إن شاء الله تعالى نواصل الحديث عن حق السادس الذي ورد ذكره في الحديث: “وإذا مات فاتّبِعه”، فنقول وبالله التوفيق، أيها الإخوة المؤمنون، من خلال هذا الحديث النبوي الكريم، تعرفنا على حقوق الأحياء من المسلمين على إخوانهم، واليوم نريد تسليط الضوء على حق من حقوق المسلم الميت على إخوته الذين كتب الله تعالى أن يعيشوا أحياء بعده، هذا لنعلم جميعا، أن علاقة الأخوة الإسلامية ليست لها نهاية، بل إنها تمتد إلى أن يجتمع الشمل بين الإخوة في عرصات الجنان، أيها الإخوة المؤمنون، أخرح الشيخان عن أبي هريرة (ض) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من شهد الجنازة حتى يُصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تُدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين”. أيها المسلمون: عن البراء بن عازب (ض) قال: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنازة وعيادة المريض وتشميت العاطس وإجابة الداعي ونصر المظلوم” ، أيها الإخوة المؤمنون، لما بلغ سيدنا عبد الله بن عمر (ض) حديث “من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان مثل الجبلين العظيمين وفي رواية: أصغرهما مثل أحد” قال لقد فرطنا في قراريط كثيرة ثم صار بعد ذلك لا يرى جنازة إلا تبعها (ض) يبتغي بذلك اغتنام الأجر وحصول الثواب الذي يلقاه مذخرا يوم القيامة في يوم هو أحوج ما يكون إليه ، ليس عنده درهم ولا دينار ولا متاع ولا قرابة ولا زوجة تنفعه إلا العمل الصالح، وهذا الحق “اتباع الجنازة”، يدلنا على عظمة الإسلام فإذا كانت العلاقات الإنسانية مبنية على المنفعة، حيث يدعي كثير من الناس المحبة إخوانهم، في حين ان ما يختفي وراء هذه الإدعاءات ما هو إلا نوع من التملق الإجتماعي المبني على المنفعة واستجلاب المصالح، فإن المعاني السامية لإتباع الجنازة تدل على صدق الأخوة والمحبة في الله، إذ ينتفي تملق من ارتحل إلى جوار ربه، وأصبح مقتقرا إلى عفوه، وحاجته إلى إخوته الأحياء أكثر من حاجتهم إليه، وفيه من المعاني السامية، ترسيخ قيمة الوفاء للعهود وللمودة التي كانت تربط بين الميت وإخوته من الأحياء المشيعين لجنازته، هذا وينبغي لمن اتبع الجنازة أن يكون خاشعا مفكرا في مآله يتأمل في مصيره، ويعظ نفسه بالموقف الذي عن قريب سيكون هو من تحمل جنازته، يتذكر هذا الرحيل، ويتذكر معه أن أقرب الناس إليه وأولى الناس به وأشفق الناس عليه من إخوة وأبناء وعشيرة هم من يسلمه إلى حفرته ويدفنه ويرمسه ويتخلى عنه وأقرب الناس إليك الذي يحملك إلى مدفنك ثم ينصرف عنك ويدعك في هذا اللحد وحيدا بأعمالك إن خيرا فخير وإن شرا فشر ولهذا قال العلماء يكره للإنسان المتبع للجنازة أن يتحدث في شيء من أمور الدنيا أو أن يتبسم ويضحك وكذلك أيضا إذا وصلت إلى المقبرة وجلست تنتظر دفنها فينبغي أن تفكر في مآلك، لكننا اليوم أيها الإخوة، أصبحنا نشيع الجنائز في محافل الغفلة، الكثير منا غافل ن شغل نفسه بالموعظة التي من أجلها شرع تشييع الجنازة، فإنه إن لم يكن مشغولا بالكلام الفارغ عن الرياضة، والسياحة، والفنون، والسياسة، فإنك تجده مشغولا بهاتفه النقال ينتقل في عوالم خيالية مرسلا ومتوصلا برسائل وأخبار كأنها في قيمتها خير وأفضل من الخبر اليقين الذي بثه الله رب العالمين، عنوانه “كل نفس ذائقة الموت” وفيه: “وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ”، أيها الإخوة المؤمنون، كان سلفنا الصالح (ض) يعظمون أمر تشييع الجنازة، يروى أن بعض السلف الصالح رأى رجلاً يضحك في جنازة فقال: أتضحك وأنت تتبع الجنازة؟ لا كلمتك أبداً، فلذلك سنوا الذكر والإستغفار مع التشييع حتى لا ينشغل المشيعون بغير ذكر الله والتفكر في المآل الذي ينتظر كل مشيع، ما بقطع الطريق أمام الغفلة، ويسن عند الإمام مالك والشافعي (ح) المشي أمام الجنازة إذا كانوا ماشين أما إذا كانوا راكبين فإنهم يسيرون خلفها لما رواه الخمسة عن ابن عمر (ض) أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة لأن المشيع شفيع للميت، والشفيع يتقدم مع المشفوع له، والصحيح أن الأمر واسع هنا لما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم وابن حبان عن المغيرة بن شعبة (ض) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريباً منها عن يمينها وعن يسارها”، جعلني الله وإياكم من الذين يرعون حقوق أخوة الإسلام، ويؤدون واجباتهم، ويمتثلون أمر ربهم ونبيهم، وأن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه أمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون، أما المكروهات التي كرهها الشرع الحكيم في اتباع الجنازة فكثيرة، فيكره اتباعها بنار أو صوت لما أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة (ض) أنه صلى الله عليه وسلم قال: “لا تتبع الجنازة بنار ولا صوت”، ولما أخرجه الطبراني في الكبير عن زيد بن أرقم (ض) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله عز وجل يحب الصمت عند ثلاث: عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة”، ولهذا أفتى العلماء القدامى والمحدثون بأن السنة في السير مع الجنازة ألا يكون معها صوت ولا نار ولا رايات ولا طبل ولا موسيقى ولا مجامر ولا رفع صوت بذكر ولا قرآن، وإن الصواب ما كان عليه السلف من السكون والسكوت حال السير معها